آيات تفهم على غير وجهها إبراهيم الصغير

قوله تعالى في سورة هود:
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً}(17).
هنا نجد كلمة (يتلوه) والتي تفهم من الوهلة الأولى على أنها من التلاوة بمعنى القراءة، إلا أنها من التَّلْو وهو الاتباع -على الصحيح- من قول المفسرين.
قال ابن الجوزي، وفي قوله تعالى (يتلوه) قولان: أحدهما: يتبعه، والثاني: يقرؤه.
قال ابن عاشور: وفعل (يتلوه) مضارع التَّلْو وهو الاتباع وليس من التلاوة، أي: يتبعه.
قال العلامة السعدي: و(يتلوه) أي: يتلو هذه البينة والبرهان برهان آخر.

قوله تعالى من سورة يوسف:
{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَو اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}(9).
(اطرحوه أرضا) تفهم على أنها أسقطوه أرضا، بينما معناها اذهبوا به إلى أرض بعيدة.
قال ابن العربي: (اطرحوه أرضا) أي: إلى أرض يبعد عن أبيه، انتهى.
قلت فلو طرحوه بالمعنى الأول لم يخل لهم وجه أبيهم، وهم الذين أرادوا إبعاده حتى يتحصلوا على حب أبيهم لهم.
قال الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- (اطرحوه أرضا) أي: انبذوه كالشيء اللُّقَا الذي لا قيمة له في أرض مجهولة بعيدة عن مساكننا أو عن العمران، بحيث لا يهتدي إلى العودة إلى أبيه.

قوله تعالى في سورة الإسراء:
{فإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً}(7).
يعتقد البعض أن (الآخرة) في هذه الآية هي يوم القيامة، ولكن عند ضمها للآية التي قبلها يتضح أن (الآخرة) هي موعد الإفساد الثاني لبني إسرائيل، بعدما قال الله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً}.
فـ(الآخرة) هي المرة الثانية.
قال ابن كثير قوله: (فإذا جاء وعد الآخرة) أي الكرة الآخرة، أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء أعداؤكم ليسوؤوا وجوهكم.

قوله تعالى في سورة الإسراء:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}(16).
الإشكال وقع في فهم كلمة (أمرنا) لتختلف آراء المفسرين تبعا لذلك:
فقد قيل إن هذا الأمر على حقيقته أي أنه أمر كوني قدري.
وقيل: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) بطاعة الله، فعصوا فاستحقوا بذلك العذاب. وقيل سلطنا أشرارها فعصوا فيها.
وقيل جعلناهم أمراء ففسقوا فيها.
ولعل الأسلم ما ذهب إليه حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة في أن معنى (أمرنا) كثرنا. وقد روي نحوه عن مالك عن الزهري.
فالعرب تقول للشيء الكثير (أمر) لكثرته. وتقول أمر بنو فلان إذا كثروا.
قال أبو عبيدة: أمرنا بمعنى أكثرنا، لغة فصيحة كآمرنا بالمد.
يعضد ذلك قوله تعالى في سورة الكهف: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}(71).
قال الطبري في قوله (إِمْراً): لقد جئت شيئا عظيما، وفعلت فعلا مُنكرا، وقال: وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: أصله: كل شيء شديد كثير، ويقول منه: قيل للقوم: قد أمروا: إذا كثروا واشتدّ أمرهم، قال: والمصدر منه: الأمَرَ، والاسم: الإمْر.
وقد قيل خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة. (مأمورة) أي كثيرة النسل. ‌
وعن زينب بنت جحش، رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل عليها فزعا يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش فقلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث».
قال ابن العربي: فيه البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير، إذا لم يغير عليه خبثه، وكذلك إذا غير عليه، لكن حيث لا يجدي ذلك، ويصر الشرير على عمله السيء، ويفشو ذلك ويكثر، حتى يعم الفساد، فيهلك حينئذ القليل والكثير، ثم يحشر كل أحد على نيته.

قوله تعالى في سورة الأنبياء:
{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْه}(87).
قد يظن ظان أن قوله تعالى: (لن نقدر عليه) من القدرة والاستطاعة.
قال القرطبي: وهذا قول مردود مرغوب عنه لأنه كفر.
قلت وهذا القول باطل من وجهين أولهما أن نبي الله يونس لا يشك في قدرة الله عز وجل، وثانيهما أن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض.
بل المراد بقوله تعالى: (لن نقدر عليه) لن نضيق عليه.
قال الضحاك (لن نقدر عليه): لن نضيق عليه في بطن الحوت، وروي نحوه عن ابن عباس واختاره ابن جرير وهو قول جمهور المفسرينّ، نظير ذلك قوله تعالى في سورة الرعد: {اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ}(26). أي: يضيق.

قوله تعالى في سورة الحج:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} (52).
الذي يفهم من كلمة (تمنى) أنها من التمني الذي هو طلب حصول شيء بعيد الوقوع.
بينما هي بمعنى تلا وقرأ على قول أكثر المفسرين.
قال القرطبي: قوله تعالى: (تمنى) أي قرأ وتلا. و(ألقى الشيطان في أمنيته) أي قراءته وتلاوته.
منه قول حسان في عثمان بن عفان -رضي الله عنه-:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ — وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: (تمنى) أي: تلا وقرأ كتاب الله، وألقى الشيطان في أمنيته أي: في تلاوته.

قوله تعالى في سورة القلم:
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}(28).
يعتقد كثيرون أن (أوسطهم) هو الذي يقع بينهم في المكان أو العمر، إلا أنها تعني أمثلهم، أعدلهم، أعقلهم وأحكمهم.
قال ابن العربي المعافري: (قال أوسطهم)، أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم.
وقال الطبري: (أوسطهم): أعدلهم.
يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا}، فالوسط هو العدل كما حكي ذلك عن مجاهد وسعيد وقتادة والضحاك وغير واحد من جهابذة التفسير.
والوسط هو الخيار الأفضل وليس المراد به ما كان بين شيئين متفاوتين.
والله تعالى أعلى وأعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *