أمر الله تعالى في هذه الآية باجتناب قول الزور، وحقيقة الاجتناب: الرفض وعدم العمل. انظر تفسير الطبري 5/33.
هو كذلك بمعنى الترك، واشتقاقه في اللغة: “كونوا جانبا” كما قال الزجاج رحمه الله. انظر زاد المسير 2/418.
وهذا أبلغ في النهي والتنفير وآكد من التنصيص على الحرمة فتنبه.
أما الزور فالأصل فيه تحسين الشيء، ووضعه بخلاف صفته، فهو كل باطل سواء كان شركا، أو عنادا، أو كذبا، أو غيره، وكل ما لزمه اسم الزور. انظر جامع البيان 19/31.
وقال ابن القيم رحمه الله: “والزور يقال على الكلام الباطل وعلى العمل الباطل وعلى العين نفسها (أي: محل الباطل).. وأصل اللفظة من الميل ومنه الزَور بالفتح، ومنه: زرت فلانا إذا ملت إليه وعدلت إليه، فالزور ميل عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له قولا وفعلا” إغاثة اللهفان 245-246.
وعليه فمعنى قوله تعالى: “وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ” أي: “جميع الأقوال المحرمات، فإنها من قول الزور الذي هو الكذب، ومن ذلك شهادة الزور” تيسير الكريم الرحمن 538.
ومثله قوله تعالى: “وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ”.
يقول السعدي: “أي: لا يحضرون الزور أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسبّ والقذف والاستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر وفرش الحرير، والصور ونحو ذلك، وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ويفعلوه، وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الآية بالأولوية” تيسير الكريم الرحمن 587.
ومن ثم فشهادة البعض على الآخر بالباطل والكذب مما يدخل في معنى قول الزور وشهادته وذلك من أكبر الذنوب.
فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال عليه الصلاة والسلام: “ألا أنبؤكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما يزال يقولها حتى قلنا: لا يَسكت” رواه البخاري وغيره.
وينجلي لنا جرم هذه الشهادة الخاصة بالوقوف عند أضرارها وهي كثيرة منها:
أولا: تضليل الحاكم عن الحق، والسبب في الحكم بالباطل.
ثانيا: الظلم لمن شهد له لأنه ساق إليه ما ليس بحق بسبب الشهادة بالزور فوجبت له النار.
قال عليه الصلاة والسلام: “إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها” متفق عليه.
ثالثا: الظلم لمن شهد عليه فيتعرض الشاهد لدعوة المشهود عليه بغير الحق ظلما ودعوة المظلوم مستجابة.
قال عليه الصلاة والسلام: “اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين” حسن السلسلة الصحيحة رقم 870.
رابعا: قد يطلب منه اليمين على صحة شهادته فيتعرض لغضب الله ومقته.
قال عليه الصلاة والسلام: “من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال: وإن كان قضيبا من آراك” مسلم.
خامسا: تخليص المجرمين من عقوبة الجريمة.
سادسا: تزكية المشهود له، وهو ليس أهلا لذلك.