فوائد وعبر مستخلصة من الهجرة النبوية

تطلق الهجرة على الترك والتخلي عن الشيء، فالمهاجر من هجر ما نهى الله عنه -كما في الحديث الشريف-، وهي بهذا المعنى مطلقة من قيود الزمان والمكان، إذ بوسع كل مسلم أن يكون مهاجراً بالالتزام بأوامر الله والهجر للمعاصي.

لكن الهجرة النبوية تتعلق بترك الموطن والانخلاع عن المكان بالتحول عنه إلى موطن آخر ابتغاء مرضاة الله رغم شدة تعلق الانسان بموطنه وألفته للبيئة الطبيعية والاجتماعية فيه.
والناظر في الهجرة النبوية يلحظ فيها حكماً باهرة، ويستفيد دروساً عظيمة، ويستخلص فوائد جمة يفيد منها الأفراد، وتفيد منها الأمة بعامة. فمن ذلك على سبيل الإجمال ما يلي:
– ضرورة الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
ويتجلى ذلك من خلال استبقاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وأبي بكر رضي الله عنهما معه؛ حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين، فعليّ رضي الله عنه بات في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه صحبه في الرحلة.
ويتجلى كذلك أيضا في استعانته بالخبير الماهر بالطريق عبد الله بن أريقط الليثي، وكتم أسرار مسيره إلاّ على من لهم صلة ماسّة به، ومع أخذه بتلك الأسباب وغيرها لم يكن ملتفتاً إليها بل كان قلبه صلى الله عليه وسلم مطوياً على التوكل على الله عز وجل.
– ضرورة الإخلاص والسلامة من الأغراض الشخصية
فما كان يبغي بهذه الدعوة ثراء ولا رياسة؛ فإنّ عيشه يوم كان الذهب يصبّ في مسجده ركاماً كعيشه يوم يلاقي في سبيل الدعوة أذىً كثيراً. وإن الناظر إليه وهو وسط أصحابه ما يظنه إلا واحدا منهم صلوات ربي وسلامه عليه.
– الإعتدال حال السراء والضراء
فيوم خرج عليه الصلاة والسلام من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه، ولما فتح الله عليه ما فتح وأقر عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين لم يطش زهواً، ولم يتعاظم تيهاً والناظر في الوقائع التاريخية يتجلى له ذلك واضحا.
– اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين
فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أنّ الدعوة إلى زوال واضمحلال، ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة للتقوى وللمتقين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلّم بسيرته المجاهد في سبيل الله أن يثبت في وجه أتباع الباطل، ولا يهن في دفاعهم وتقويم عوجهم، ولا يهوله أن تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أمّا العاقبة فإنّما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.
– ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة
ذلك في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه لمّا كانا في الغار، وقال رضي الله عنه: “والله يا رسول الله لو أنّ أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا”، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم مطمئناً له: “ما ظنّك باثنين الله ثالثهما”.
فهذا مثل من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والاتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأنّ الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة.
هذه حال أهل الإيمان، بخلاف أهل الكذب والنفاق؛ فهم سرعان ما يتهاونون عند المخاوف وينهارون عند الشدائد، ثم لا نجد لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.
– أنّ من حفظ الله حفظه الله
ويؤخذ هذا المعنى من حال النبي صلى الله عليه وسلم لما ائتمر به زعماء قريش ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، فأنجاه الله منهم بعد أن حثا في وجوههم التراب، وخرج من بينهم سليماً معافى.
وهذه سنة ماضية، فمن حفظ الله حفظه الله، وأعظم ما يحفظ به أن يحفظ في دينه، وهذا الحفظ شامل لحفظ البدن، وليس بالضرورة أن يعصم الإنسان؛ فلا يخلص إليه البتة؛ فقد يصاب لترفع درجاته وتقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.
– أنّ النصر مع الصبر
فقد كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة، ولكنها سنة الإبتلاء يؤخذ بها النبي صلى الله عليه وسلم الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.
– إنتشار الإسلام وقوته
وهذه من فوائد الهجرة، فلقد كان الإسلام بمكة مغموراً بشخب الباطل، وكان أهل الحق في بلاء شديد؛ فجاءت الهجرة ورفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلصت أهل الحق من ذلك الجائر، وأورثتهم حياة عزيزة ومقاماً كريماً.
هذه بعض الدروس والفوائد من الهجرة في سبيل الإجمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *