لقد كثرت الفواحش في واقع الناس اليوم حتى عمَّ بها البلاء، واستمرؤوها حتى أصبحوا يأتونها جهارا نهارا، يتباهون بشرب الغالي من الخمور، والسهر في الفاخر من أوكار الفجور، غافلين عما تعقبه المعاصي والآثام من عقوبات في الدنيا والآخرة، ناسين أن الجهر بمعصية الله يوجب عدم معافاة الله له في الدنيا والآخرة.
فمن الواجب على العبد أن يستر نفسه عند مواقعة المعاصي في السر، وألا يهتك ستر الله عليه، فإن ستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار ذلك أغضب ربه فلم يستره، كما أن الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله صلى الله عيله وسلم وبصالح المؤمنين، وفيه ضرب من العناد وقلة الحياء والمجون، بخلاف من قصد التستر خوفا من الله تعالى وتوبة إليه وحياء من الناس مَنَّ الله عليه بستره إياه وحَضِيَ بالسلامة من كل سوء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كل أمتي معافى إلا المجاهرين، إن المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عليه” أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الآداب وبوب عليه فقال: “باب ستر المؤمن على نفسه”، ومسلم في صحيحه في كتاب الزهد والرقائق وبوب عليه الإمام النووي بقوله: “باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه”.
قال النووي رحمه الله في معنى قوله “إلا المجاهرين”: “هم الذين جاهروا بمعاصيهم وأظهروها وكشفوا ما ستر الله تعالى فيتحدثون بها لغير ضرورة ولا حاجة” شرح مسلم.
وقال العيني رحمه الله في معنى الحديث: “والمجاهر هو الذي جاهر بمعصيته وأظهرها والمعنى كل واحد من أمتي يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا الفاسق المعلن” عمدة القاري.
فالإصرار على المعصية معصية أخرى، والقعود عن تدارك الفارط من المعصية إصرارا ورضا بها وطمأنينة إليها، وذلك علامة الهلاك وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه، لئن آمن بنظره إليه وأقدم على المجاهرة فعظيم وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكفر وانسلاخ من الإسلام بالكلية، فهو دائر بين الأمرين: بين قلة الحياء ومجاهرة نظر الله إليه وبين الكفر والانسلاخ من الدين.
مع العلم أنه لا يكتفى بالستر على المعصية دون الرجوع إلى الله والتوبة من ذلك مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها فمن ألَمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب…” صحيح الجامع.
قال المُناوي رحمه الله في فيض القدير: “(اجتنبوا هذه القاذورات) جمع قاذورة وهي كل قول أو فعل يستفحش أو يستقبح…(وليتب) بالندم والاقلاع والعزم على عدم العود”.
قال الشافعي رحمه الله: “أحب لمن أصاب ذنبا فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب” الفتح وتحفة الأحوذي.