ضبط النصوص
قبل المصير إلى المسلك الثاني لزم بيان أمر مهم، لا يقوم ثبوت الدليل إلا به، وهو: ضبط النصوص.
فقد ذكر أهل الحديث أن الضبط شرط في صحة الرواية من الكتاب المسموع، حذرا من التصحيف والتحريف، وكذا الفقيه الذي يحمل المعاني على الألفاظ. فيشبه الفقيه الجاهل بالمشتبه الصحفي الذي يروي الخطأ على قراءة الصحف باشتباه الحروف كما قال الخليل بن أحمد.
فلا بد من تتبع النصوص ومقابلتها أو الإحالة على أهل الصنعة وإلا أتى بالعجائب، فقد ذكر الخطيب البغدادي في الجامع(1/295 ـ 296): قال أبو موسى العنَزي: نحن قوم لنا شرف، نحن من عنَزة، قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، لِمَا رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنَزة، توهم أنه صلى إلى قبيلتهم. وإنما العنَزة التي صلى إليها هي: حربة كانت تحمل بين يديه، فتنصب، فيصلي إليها.اهـ
وقد حصل لي مع بعض الناس نظير ما حصل للخطيب البغدادي إلا أن صاحبي حملها على العنْزة، قلت له: إذا تفر “السترة”. قال: يعقلها. قلت: تذهب إذا يمينا أو شمالا. قال وظني به الانقطاع: يجعل الحبل قصيرا. فخشيت من “فطنته” على العنزة أن تسمر المسكينة في الأرض، فرحمة بها ضبطت له اللفظة، “أما بعض الناس” فبقي ساكتا، فلا أدري هل يتعجب من ذكائه أم من زلته؟!
الاستقراء
وهنا أمر هو ألصق بهذا المسلك لا يمكن الاستغناء عنه:
الاستقراء أو تتبع الشيء أجمعه، مسلك من مسالك الاستدلال غير المباشر، فيلزم الفقيه تتبع واستقصاء النصوص قبل النظر في ثبوتها، وهذا من لوازم تحرير الدليل. وفائدة ذلك ما ذكره الحبر شيخ الإسلام: ” لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم”اهـ
لذا كانت غالب أسباب غرائب الاستنباط من هذا الباب، فالنظر والاستدلال والاعتبار يقوم على التتبع خاصة إذا كانت الدلائل خفية.
فالعلم لا يسمح بسره ومخزونه إلا لمن رغب فيه، فالحذر من علم المناسبة والشهوة، فبه حصل الضرر.