سبق في الحلقة الماضية الكلام عن حكم بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وأن حكم ذلك التحريم في قول جماهير العلماء، واسْتُثْنِيَ من ذلك ما لو بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فقد حكى غير واحد من العلماء الاتفاق(1) على جواز هذه الصورة.
وسنتكلم في هذه الحلقة عن مسألة لها صلة بالحكم السابق وهي:
علامة صلاح الثمرة
أما بدو الصلاح الذي جوَّز معه رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع بعده: فهو أن تظهر في الثمر صفة الطيب، لما في الصحيحين عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمَر حتى يطيب”(2).
وفيهما أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى تأكل منه أو يؤكل”(3).
وروى البخاري تعليقا عن أبي الزناد قال: “وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا، فيتبين الأصفر من الأحمر”(4).
قال الحافظ ابن حجر: “والنجم هو الثريا. وطلوعها صباحا يقع في أول الصيف، وذلك عند اشتداد الحر في بلاد الحجاز، وابتداء نضج الثمار، فالمعتبر في الحقيقة النضج، وطلوع النجم علامة له”(5).
قال ابن رشد: “وطلوع النجم يكون لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيار وهو مايو”(6).
ذكر ما به يعرف صلاح بعض أنواع الثمار
قال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي رحمه الله: “بدو الصلاح في الثمار يختلف بحسب اختلاف الغراس، ففي النخل بأن يحمر أو يصفر البسر(7)، وفي العنب أن يسْوَدَّ إن كان مما يسود، أو تدور الحلاوة فيه إن كان أبيضا، والتين والبطيخ وغيرهما إدراكه وبلوغ أكله، والبقول(8) تمام نباتها وأن ينتفع بها إذا قطعت في العادة”(9).
وذكر البغوي رحمه الله أن بدو الصلاح في الخوخ والمشمش والتفاح بأن يطيب بحيث يستطاع أكله، وفي القثاء(10) والباذنجان بأن يتناهى بحيث يجتنى في الغالب(11).
بيع الثمر وقد بدا صلاح بعضه دون بعضه الآخر
إذا بدا الصلاح في بعض الشجرة جاز بيع جميعها، وكذلك يجوز بيع ذلك النوع كله في البستان(12)، لأنه لو لم يُجَوَّز ذلك إلا بأن يعم الصلاح البستان كله لحق فيه ضرر عظيم، ولا يكاد يلحق الآخر إلا بفساد الأول(13).
قال القاضي عبد الوهاب: “يجوز أن يباع ما يجاور المراح بطيبه وصلاحه خلافا للشافعي، لأنه إذا جاز بيع ما في المراح ببعض طيبه جاز بيع ما حوله بطيبه، لأنه لا فضل في ذلك إلا قيام الجدران، بدليل أنها لو قلعت لارتفع المنع وذلك لا يؤثر، ولأن الزمان الذي تؤمن فيه الآفة غالبا حاصل”.
وقال رحمه الله: “لا يجوز بيع صنف من الثمار بطيب غيره كالرطب والعنب لأنها متفاوتة في الإدراك والتلاحق تفاوتا شديدا، فلم يكن طيب بعضها دالا على تلاحق غيره وتخلصه من الآفة”(14).
وذهب شيخ الإسلام إلى جواز بيع البستان كله جملة تبعا لما بدا صلاحه، سواء كان من نوعه أو لم يكن، تقارب إدراكه وتلاحق أو تباعد(15)، لما في إفراد كل نوع من الثمار بالبيع من الحرج والمشقة.
قال رحمه الله: “فهذه المسألة إذا كان البستان مشتملا على أنواع ففيها أيضا قولان:
أحدهما: وهو قول الليث بن سعد: أنه يجوز بيع جميع البستان إذا صلح نوع منه، كما يجوز بيع النوع جميعه إذا بدا صلاح بعضه، وذلك لأن التفريق فيه ضرر عظيم، وذلك لأن المشتري للنوع قد يتفق في النوع الآخر، وقد لا يتفق من يشتري نوعا دون نوع، وهذا القول أقوى من القول الثاني: وهو المنع مطلقا كما هو مشهور… وسر الشريعة في ذلك كله: أن الفعل إذا اشتمل على مفسدة مُنِع منه، إلا إذا عارضها مصلحة راجحة كما في إباحة الميتة للمضطر. وبيع الغرر نُهِي عنه لأنه من نوع الميسر الذي يفضي إلى أكل المال بالباطل، فإذا عارض ذلك ضرر أعظم من ذلك أباحه دفعا لأعظم الفسادين باحتمال أدناهما، والله أعلم”(16).
وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سبق في الحلقة الماضية توهيم ابن حجر من حكى الإجماع في هذا الموضع لمخالفة ابن أبي ليلى والثوري في ذلك.
2- البخاري (2189)، ومسلم (1536).
3- البخاري (2246)، ومسلم (1537).
4- البخاري (2193).
5- فتح الباري (4/499).
6- بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/251).
7- البسر: أوله طلعٌ ثم خَلال ثم بَلَحٌ ثم بُسْرٌ ثم رُطَبٌ ثم تمر.كما في مختار الصحاح
8- البقول: كل نبات ليس له ساق كالنعناع والكرفس والكراث وسائر أنواع الخضر، وما كان من النبات له ساق يسمى الشجر.
9- المعونة على مذهب عالم المدينة (2/41).
10- القثاء: الخيار.
11- شرح السنة (8/96).
12- إعلام الموقعين (5/423).
13- المعونة (2/41).
14- نفس المصدر.
15- إعلام الموقعين (5/423).
16- الفتاوى (29/483-482).