6- مراقبة الله تعالى في السر والعلن:
ولا نغتر بأننا لا نحاسب على حديث النفس وخطرات القلب، فعدم مراقبة العليم جل في علاه والتمادي والاسترسال مع كل خاطرة لا ترضيه سبحانه، قد يكون سببا في الوقوع فيما لا تحمد عقباه.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل.. فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه، فإنه سبحانه به كل صلاح ومن عنده كل هدى ومن توفيقه كل رشد ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء، فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته وطرق عبوديته وإنزاله إياه حاضرا معه مشاهدا له، ناظرا إليه رقيبا عليه، مطلعا على خواطره وإرادته وهمه، فحينئذ يستحي منه ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله، أو يرى في نفسه خاطرا يمقته عليه”.
ثم يقول رحمه الله تعالى في بيان خطورة الاسترسال مع الخواطر الدنيئة: “واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها..
وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولا بد من شيء تطحنه.. فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى.. فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه”.
ثم يقول ناصحا أمينا: “وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضلة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك..”1 .
وفي ختام ما تيسر من آثار اسم الله العليم أنقل كلمة للدكتور محمد راتب النابلسي يقول فيها: “راقِبْ نفْسَك؛ لو طرق بابك إنْسان كريم له هَيْبَة ومكانة وعالِم ووَقور ودخل إلى البيت كيْفَ سَتَتَصَرَّف؟ تَصَرُّفٌ حكيم تَنْتقي أجْمل الألْفاظ وتَرْتَدي أجْمل الثِّياب وتَجْلِس أمامهُ جلْسَةً مُؤَدّبة فإذا كنت تهابُ رجلاً من بني جِلْدَتِك له مكانةٌ في قوْمِهِ وتتأدَّبُ في مَجْلِسِه فَكَيْف إذا علِمْت أنْ الله يعْلم؟ وكيْف إذا علِمْت أنّ الله علاّم الغيوب؟ وكيف إذا علِمت أنّ الله لا يخْفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء؟ وكيف إذا علِمت أنّ الله أقْرب إليك من حبْل الوريد؟ وكيْفَ إذا علِمْتَ أنَّ الله يحولُ بين المرْء وقَلْبِهِ؟ وكيف إذا علِمْت أنَّهُ يعْلم السِّر وأخفى؟ وكيف إذا علِمْت أنّ الله يعْلم ما كان وما يكون وما سَيَكون ويعْلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون”2 .
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ممن يؤمن حق الإيمان باسمه العليم ويتعبده به حق العبادة فيراقبه في السر والعلن ويكون من الزمرة المباركة التي أثنى الله تعالى عليها بقوله: “إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ” (سورة الملك).
كان هذا آخر ما تيسر من اسم الله العليم، وإلى اللقاء مع اسم آخر من أسماء الله تعالى الحسنى.
——————-
1- فوائد الفوائد (ص:269-270)، دار ابن الجوزي؛ وقد آثرت نقل معظم كلامه رحمه الله في هذا الباب نظرا لأهميته وحاجتنا الماسة إلى تدبره خاصة في زمننا هذا زمن الخطرات والخطوات، بسبب الفساد العارم بقنواته ووسائله التي صارت في المتناول..
2- أسماء الله الحسنى للدكتور محمد راتب النابلسي.