إن المتأمل في سلوك بعض الناسكين يلحظ فيهم شدة الإقبال على المبادرة والحرص على الإكثار منها دون مراعاة الأصول والضوابط الشرعية. ذلك أن هذه الطائفة غلب عليها العمل والتقصير في العلم والاتباع ولذلك كان أئمة السنة يتوقون الرواية عمن عرف بالزهد والنسك لغفلتهم وعدم ضبطهم للعلم.
إن ثمة ضابط مهم في باب النفل المطلق ينبغي مراعاته وقد يخفى على كثير من المتعبدين والمتأمل في أحوالهم يجد عدم اهتمامهم بهذا الضابط إما جهلا منهم أو ضعفا في البصيرة أو خللا في السلوك العملي.
الضابط المهم الذي ينبغي مراعاته أثناء التطوع بالنوافل هو أن لا يكون في فعله تفويت لمصلحة راجحة أو ارتكاب مفسدة محققة، فإذا ترتب على فعل التطوع فوات مصلحة أو تحقق مفسدة كان المشروع حينئذ للمكلف عدم فعله، لأن الاشتغال به يفوت ما هو أعظم فائدة ويكون من جنس الاشتغال بالسنة على حسب الفرض.
وقد دل الشرع على هذا الضابط. فمن ذلك ما ورد في الصحيح في قصة ابن جريج العابد لما اشتغل بالصلاة وترك إجابة أمه. وكان داود عليه الصلاة والسلام يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى؛ فداود كان يراعي في تطوعه بالصوم ألا يخل بالجهاد العبادة المتعدية وقد يكون واجبا، ولهذا شرع للمجاهدين الفطر حين لقاء العدو ليتقووا على القتال.
ولما استأذن رجل النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج للجهاد قال له: (أحي والداك). قال نعم. فقال: (ففيهما فجاهد). وأفطر النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره لما رأى أحد أصحابه سقط مغشيا عليه فراعى المشقة فقال: (ليس من البر الصوم في السفر). ونهيت المرأة عن التطوع بالصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه مراعاة للقيام بحقوقه الواجبة لئلا تشتغل بسنة وتفوت الواجب. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ترك بناء البيت خشية وقوع الفتنة في الناس في أمر ما تحتمله نفوسهم وعقولهم. والأدلة على هذا الأصل كثيرة جدا في الشرع.
والحاصل أنه إذا ترتب على فعل نافلة إخلال بعبادة واجبة أو تضييع لحق واجب أو سنة مؤكدة أو عبادة يتعدى نفعها كان ترك هذه النافلة هو الموافق للشرع.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يراعي هذا الأصل العظيم في تطوعه فيتحرى في فعله وتركه موافقة الشرع في تحقيق المصلحة ودرأ المفسدة فقد كان يكثر من التطوع بالصوم إذا لم يكن مشغولا بما هو أهم؛ ويفطر أياما كثيرة لاشتغاله بأمور أعظم ولم يكن يواظب على صلاة الضحى والشواهد كثيرة في السنة على ذلك.
وكذلك كان السلف الصالح يعتنون بهذا الأصل في فقه العبادة فقد كانوا حريصين على المفاضلة بين الأعمال ومعرفة الفاضل من المفضول في أعمال البر؛ وكانوا يتحرون سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ومن ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه كان لا يكثر من صوم النفل وكان يقول يشغلني عن القرآن وكان مرجعا للصحابة في قراءة القرآن وضبطه. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يوتر بركعة واحدة أول الليل لانشغاله بطلب العلم وحفظ الحديث. ولما حج الفقيه إبراهيم بن طهمان من خراسان إلى مكة وجد في طريقه قوما يجهلون الإسلام فقطع حجه ومكث فيهم يفقههم في دين الإسلام. وذهب الشافعي وأحمد إلى تفضيل الاشتغال بطلب العلم على النوافل بالصلاة والصوم وغيره لأن الفقه نفعه متعد والنافلة نفعها لازم؛ (مراعاة المصلحة والمفسدة في التطوع بالنوافل؛ خالد البليهد).
وهذا كله طبعا في حال التعارض أما الأصل فهو أن يشارك المسلم في كل أعمال الخير؛ ويجتهد قصارى جهده في أحد هاته الأبواب حتى يعرف به.