حكم اللَّحنُ الجلي في سورة الفاتحة داخل الصلاة

هذه المسألة من أهم المسائل التي يذكرها الفقهاءُ في كتبهم في باب القراءة في الصلاة، ذلك لأن سورة الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاةُ إلا بها؛ لذا كان لزاماً أن نذكر هذه المسألة والتي هي من شِقيَّن:

اللَّحن الجلي في سورة الفاتحة في الصلاة إذا كان لا يُحيل المعنى:
فقد اتفق الفقهاء على صحة صلاة من كانت تلك حالهُ، ولكن إمامته مكروهة، وذلك مثل: ضم الهاء من قولِه” الْحَمْدُ للّهِ” أو ضم الباء من قولِـه “رَبِّ الْعَالَمِينَ” أو فتح الدال من “نَعْبُدُ ” ونون “نَسْتَعِينُ” الثانية، وغير ذلك.
اللَّحن الجلي في سورة الفاتحة في الصلاة إذا كان يُحيل المعنى: وذلك مثل ضم التاء أو كسرها من قولِه تعالى: “أَنعَمتَ” أو تخفيف الياء أو كسر الكاف في قولِـه “وإِيَّاكَ” أو النطق بالضاد ظاءً من قولِه “وَلاَ الضَّالِّينَ” وغير ذلك.
فقد اختلف الفقهاءُ في هذه المسألة على أقوال:
-أما المالكية فيرون أن الذي لا يُحسن القرآن أشدُّ حالاً ممن ترك القراءة أصلاً.
قال الإمام مالك رحمه الله: “إذا صلى الإمام بقوم فترك القراءة انتقضت صلاته وصلاة من خلفه وأعادوا، وإن ذهب الوقتُ قال: فذلك الذي لا يُحسن القرآن أشد عندي من هذا؛ لأنه لا ينبغي لأحد أن يأتمَّ لا يُحسن القرآن”اهـ.المُدوَّنة الكُبرى 1/177.
– وأما الشافعية: فيرون أن اللحن الجلي المُخل بالمعنى يُبطل الصلاةَ، إن تعمَّد ذلك، وإن لم يتعمَّد يجب عليه إعادة القراءة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “وأكرهُ أن يكون الإمام لحاناً لأن اللحَّان قد يحيل معاني القرآن فإن لم يلحن لحناً يحيل معنى القرآن أجزأتْهُ صلاته، وإن لحن في أم القرآن لحناً يحيل معنى شيء منها لم أرَ صلاته مجزئهٌ عنهُ ولا عمَّن خلفهُ” اهـ.كتاب الأم 1/110.
وفي مجموع شرح المذهب للإمام النووي: قال ما نصُّه: ولو أبدل الضاد بالظاء أي في قولِه تعالى: “وَلاَ الضَّالِّينَ” ففي صحة قراءته وصلاته وجهان:
أحدهما: لا تصح( ). والثاني: تصح؛ لعسرِ إدراك مخرجهما على العوام وشبههم.. وإن لحنَ في الفاتحة لحناً يُخل بالمعنى بأن ضم تاء “أَنعَمتَ” أو كسرها، أو كسر كاف “إِيَّاكَ نَعْبُدُ” أو قال: إياء بهمزتين لم تصح قراءته وصلاته إن تعمد، وتجب إعادة القراءة إن لم يتعمَّد..”اهـ.المجموع شرح المهذب.
– وأما الحنابلة فيرون أن اللحن الجلي المُخلُ بالمعنى يُبطل الصلاة إلا إذا عجز القارئ عن إحسانها وخيف خروج الوقت بتعلُّمها؛ فحينئذٍ لا يلزمُهُ قراءتها، وإنما يلزمُهُ قراء سورة أو آيات بعدد آيات سورة الفاتحة.
قال ابن قدامة: فإن ترك ترتيبها، أو تشديدةً منها، أو قطَعها بذِكْرٍ كثير أو سكوتٍ طويل لزمَهُ استئنافها؛ وجملة ذلك أنه يلزمُهُ أن يأتي بقراءة الفاتحة مرتبة مُشدَّدة، غير ملحونٍ فيها لحناً يحيل المعنى، مثل أن يكسر كاف “إِيَّاكَ” أو يضم تاء “أَنعَمتَ” أو يفتح ألف الوصل في “اهدِنَا ” فإن أخلَّ بالترتيب، أو لحن فيها لحناً يُحيل المعنى، لم يُعتدَّ بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها مُرتبةً، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أُصلِّي) إلا أن يعجز عن غير هذا، وكذلك إن أخلَّ بتشديدةٍ منها.. إلى قولِه فإن لم يُحسن الفاتحة، وضاق الوقت عن تعلمها قرأ قدرها في عدد الحروف، وقيل في عدد الآيات من غيرها، فإن لم يُحسن إلا آية كرَّرها بقدرها..الخ”. الشرح الكبير، المُقنِع لابن قدامة المقدسي، 3/444-450.
..والذي يظهر في هذه المسألة والله أعلم أن الذي يلحن في فاتحة الكتاب لحناً جلياً يُحيل المعنى لا يخلو من إحدى حالتين:
الحالة الأولى: إما أن يكون من خطأ أو نسيان فهذا والله أعلم داخل تحت عموم قوله تعالى: “رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا” قال: قد فعلت. رواه مسلم
وإما أن يكون عاجزاً عن الصواب وهذا حال قراءة أكثر الأعاجم “الحمد”، “الرحمن” بالهاء والعالمين بالألف المهموزة الآلمين. فهذا والله أعلم داخل تحت عموم قولـه تعالى: “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا”، وقوله تعالى: “لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا”، ولكن إمامة من كانت هذه حالُهُ مكروهة عند أهل العلم، ويلزمُهُ المبادرة إلى تعلُّمِ الصواب. ينظر المُقنع لابن قدامة 3/444-450، والإنصاف للمرداوي 3/444-450
الحالة الثانية: أن يكون عالماً عارفاً ما يقرأ، قادراً على تصويب قراءته، أو جاهلاً بقراءته كضم التاء من قولِه “أنعمتُ” أو كسر الكاف من “إياكِ” أو غير ذلك مما يُحيل المعنى، لكنهُ فرَّط في تعلُّم الصواب، فهذا والله عز وجل أعلم صلاتهُ غير مجزئةٍ، ويلزمُهُ إعادتها.
وأما قولُه ” وَلاَ الضَّالِّينَ” خاصة فإن البعض من المسلمين يُخطئون في النطق به ظاءً بدلاً من الضاد، والفرق بينهما ظاهر إذ الضلال بالضاد هو ضد الهُدى كقولـه تعالى: “وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ” وبالظاء هو الدوام كما قال تعالى: “وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ”.
وإنهُ لما عمَّت البلوى باللَّحن في هذا الحرف خآصةً وأن من قرأهُ بالظاء إنما يُريد الضلال المقابل للهُدى لاغير، ولأن الظاء والضاد متقاربان مخرجاً وصفةً( ) كان هذا مما يُرجى أن يُعفى عنهُ لاسيِّما من عامة الناس لقول الله عز وجل “وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ”، ولقولـه تعالى: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ”.
ولأنـه صلى الله عليه وسلم إنمـا أُرسـل لوضـع الإصـر والأغـلال عـن النـاس كمـا قـال تعـالــى: “وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ”. انظر: رسالة في تجويد الفاتحة للدكتور محمد العمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *