التنبيه إلى مسالك استدلال الفقيه الحلقة الأولى سعيد البحراوي

“الفقه عماد الحق، ونظام الخلق، ووسيلة السعادة الأبدية، ولباب الرسالة المحمدية، من تحلى بلباسه فقد ساد، ومن بالغ في ضبط معالمه فقد شاد”. والفقيه من وسم برسمه وتزيى بزيه، واشتغل به تأصيلا وتفريعا، تقعيدا وتخريجا، خلافا ووفاقا. سلك الفقيه في تقرير المسائل مسلكا وعرا، أجهد نفسه من أجل التحرير والتدقيق، والسبر والتقسيم، حتى يكون الحكم جليا لا لبس فيه، والعمل ميسرا لا تكلف فيه.

فهذا بيان مجمل مسلك الفقيه في الاستدلال حتى يكون المرء على بينة من مكانة وقدر من يوقع عن الله تعالى. فيفرح بالمرشد الهادي “ويسلك سبيله ويقتحم طريقه فيبني على الرسم فيصنعه ويحتذي على المثال فيحكيه”، ويمنع الصائل العادي المهون من شأنه المتسلل لواذا، شأن أضرابه المستخْفين والمستترين بعضهم ببعض، الممتطين صهوة: “الدين للجميع” ولا حجر على العقل والفكر. قال ابن حزم: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يُصلحون.

وذكر مالك أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، لكن اسْتُفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم.

المسلك الأول:

قال الشاطبي في الاعتصام(164): والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، فلا يمكن أن يسند إليها حكم.

فنظرُ الفقيه أولا يكون في ثبوت الدليل:

فإن كان قرآنا فلا ينظر إليه من جهة الثبوت إجماعا، فقد ثبت بالتواتر، ولكن في دلالته.

وإن كان حديثا، فالنظر في درجته، إما بمعرفة أسباب القبول والرد، وهذا علم قائم بذاته يوسم بعلم الحديث، له أصول، وأحكام، وقواعد، وأوضاع، واصطلاحات.

وإما الاكتفاء بمعرفة درجته من أهل الصنعة.

وهنا أمر دقيق حتى نعلم تجرد الفقيه من الهوى وحظوظ النفس، قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري(1/387):

“والمخالف يشغب بذكر الأحاديث التي رجع عنها رواتها ويقول هي صحيحة الأسانيد، وربما يقول: هي أصح إسنادا من الأحاديث المخالفة لها.”اهـ

فقد يكون الحديث صحيحا ثابتا، ولكن لا يصلح للاحتجاج، لأنه منسوخ أو نحو ذلك.

وإن كان إجماعا، فالنظر في ثبوته، وعدم المخالف، ومرتبته، وكذا معرفة اصطلاح من ينقل الإجماع، فبعضهم لا يَعْتد بمخالفة الواحد أو الاثنين.وهذا يحتاج إلى تتبع وبحث.

فقد يدعى الإجماع ويكون النزاع معلوما، فتستحل أعراض وتسفك دماء، وهذا شأن أهل البدع والضلال خاصة، وهذا باب عظيم زل فيه أقوام.

فالإجماع لابد أن يستند إلى دليل “فما من حكم اجتمعت الأمة عليه إلا وقد دل عليه النص، فالإجماع دليل على نص موجود معلوم عند الأئمة ليس مما درس علمه”.

فلا يجوز الاعتزاء إلى إجماع لا حقيقة له.

وإن كان قياسا، فالنظر في ثبوته وصحة شروطه من أصل وفرع وجامع وحكم مستفاد، وإلا رد ومنع، ومنه معارضته لنص الكتاب أو السنة.

قال ابن تيمية في المجموع(20/505):

..وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس علمنا قطعا أنه قياس فاسد، بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي ظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم، فليس في الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا، لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده. فالمقصود تحرير وتوثيق النص حتى لا يرتب عليه حكم، و هلم جرا من فروع متصلة غير منقطعة ليس وراءها طائل. فيشبه قول الله تعالى: “أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ_ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (التوبة:109)

روى البيهقي في سننه(1/81): “أن ابن وهب قال: سمعت مالكا يسأل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال: ليس ذلك على الناس، قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: يا أبا عبد الله سمعتك تفتي في مسألة تخليل أصابع الرجلين زعمت أن ليس ذلك على الناس وعندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ فقلت: ثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: إن هذا حديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته يُسأل بعد ذلك فأمر بتخليل الأصابع”اهـ. فإن أيس الفقيه من ثبوت النص سار إلى الاستنباط.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة في أصول الفقه (370): لا يجوز الحكم بالقياس قبل الطلب التام للنصوص، إلا إذا أيس من الظفر بنصٍ، بحيث يغلب على ظنه عدمه، فهنا يجوز بلا تردد.اهـ “فالاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده باللفظ” والله أجل وأعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *