هناك من يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون دائمًا باللّين، وخفض الجانب، ويستدلّ بقوله تعالى: “اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى” (طـه:43-44).
ووجه استدلاله من الآية: أن فرعون قد بلغ من العتوّ والطغيان والكبر ما لم يبلغه أحد من البشر، حيث ادّعى الألوهية، ومع ذلك يأمر الله بإلانة القول له، والرّفق معه. فإذا كان ذلك مع فرعون، فإن من هو دونه بالجرم والإثم أولى منه بالرّفق واللّين.
وآخرون يرون وجوب الشدّة والإغلاظ في القول مطلقًا، ويستدلّون بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ” (التوبة:73)، وقوله سبحانه: “قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً” (التوبة:123)، وقول موسى لفرعون: “وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً” (الإسراء:102) فيقولون: إن هذه الآيات تدل على وجوب الإغلاظ والشدة مع هؤلاء، وأن اللين يكون مع المؤمنين، لقوله تعالى: “وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ” (الحجر:88)، وأمثالها.
والحق أن هذه الآيات هي التي تؤكد أن الوسطيَّة مسألة نسبية، تختلف باختلاف ما يحفّ بها من قرائن وأحوال، يجب اعتبارها في مثل هذه المسائل.
والقول الأمثل أنّه يجب النظر في مجموع الأدلة، وعدم الاقتصار على بعضها دون الآخر، فضلا عن ضرب بعضها ببعض كما يفعل أصحاب الأهواء.
وهذا المسلك -مسلك النظر في جميع الأدلة- سيؤدي إلى إعمال كل دليل في موضعه، دون إهمال الدليل الآخر أو الغفلة عنه.
ولننظر -الآن- فيما ذكرته من أدلّة كل من الفريقين، فنجد أن أمر الله لموسى وهارون -عليهما السلام- باستعمال الرفق مع فرعون، كان في أول رسالة موسى -عليه السلام- كما يدلّ عليه سياق الآيات في سورة طه، ولذلك جاء الأمر معلّلا برجاء إسلامه وانقياده “فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى” (طـه:44).
والفائدة في إرسالهما، والمبالغة عليهما في الاجتهاد -مع علمه بأنه لا يؤمن- إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من آيات. (تفسير القاسمي 11/4182).
أمّا آية الإسراء فإنها جاءت في نهاية المطاف مع فرعون، ولما لم تنفع جميع الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام وهي تسع آيات عظيمة، فلم يكن بد من الإغلاظ له في القول” وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً” (الإسراء:102) أي: هالكًا، فإن الثبور: الهلاك والخسران. (تفسير القرطبي 10/337).
والدليل على أن هذا الأمر كان في نهاية الأمر معه قوله تعالى بعد هذه الآية: “فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً” (الإسراء:103).
أمّا قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ” (التوبة:73، والتحريم:9)، وقوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً” (التوبة:123)؛ فإن هذا كان -أيضًا- في آخر العهد النبوي، حيث إن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن، وكذلك سورة التّحريم متأخرة.
ومعنى هذا: أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد خاطب المشركين قبل ذلك، ودعاهم إلى الله باللين، واستخدم معهم جميع وسائل الرفق، حتى لم يعد يُجدي معهم إلا السّيف والغلظة.
وكذلك المنافقون، لم تجدِ معهم وسائل المهادنة والوعظ، والرفق واللين، فكان لا بدّ من الإغلاظ لهم بالقول، كالإغلاظ للكفّار بالسّيف.
وخلاصة القول: إن اللين والإغلاظ، أمران مشروعان، لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر في كل الأحوال، وإنما الحق هو استخدام كل واحد منهما في موضعه.
وأخيرًا نأتي لكلمة الفصل في هذه القضية: إذا كانت الوسطيَّة في هذا الباب تختلف باختلاف الحال والمحلّ، والزّمان والمكان، فما هو الضّابط لذلك؟
والجواب حسمه القرآن الكريم في آية واحدة، حيث قال سبحانه وتعالى: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (النحل:125).
فالحكمة هي الضّابط، والفيصل في ذلك، فحيث كانت الحكمة كانت الوسطيَّة، وحيث فقدت فإن هناك انحرافًا إلى ذات اليمين أو ذات الشمال.
وجماع الحكمة في قول ابن القيم: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي” (مدارج السالكين2/479، وانظر: لكل ما سبق رسالة الحكمة ص:16).