من عرف الله قرت عينه به, ومن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات, ومن عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه, ومن ادعى معرفة الله وهو راغب في غيره كذبت رغبته معرفته, ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به, وخافه ورجاه, وتوكل عليه, وأناب إليه, ولهج بذكره واستحيا منه, وأجلَّه وعظمه على قدر معرفته به، فما أحوج الناس إذن إلى معرفة ربهم خاصة إذا علموا أن معرفة الله في الرخاء سبب لمعرفته لهم سبحانه -فضلا ومنة- في الشدة.
قال عليه الصلاة والسلام: “تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة” الصحيحة.
وقال أحد السلف: “من عرف الله تعالى اتسع عليه كل ضيق” المدارج.
ومعنى قوله (تعرَّف إلى الله) بتشديد الراء المفتوحة أي تحبب إليه وتقرب من رحمته ورضاه بلزوم الطاعات واجتناب المنهيات والإنفاق في القربات والشكر على ما أولاك وأعطاك.
(في الرخاء) أي: في زمن سعة الرزق وصحة البدن.
(يعرفك) أي: يجازيك.
(في الشدة) أي: في زمن نزول المصائب والمكروهات بك, فيفرج عنك الهموم, ويكشف عنك الغموم, ويجعل لك في كل همٍّ فرجا, ومن كل ضيق مخرجا.
قال ابن رجب رحمه الله: “فمعرفة العبد لربه نوعان:
أحدهما: المعرفة العامة: وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان, وهذه عامة للمؤمنين.
والثانية: معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية, والانقطاع إليه والأنس به, والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له, وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون, كما قال بعضهم: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها, قيل له: وما هو؟ قال: معرفة الله عز وجل.
ومعرفة الله بعبده نوعان:
معرفة عامة: وهي علمه سبحانه بعباده واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه كما قال: “ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه” وقال: “هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم”.
ومعرفة خاصة: وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه, وإجابة دعائه, وإنجاؤه من الشدائد وهي المشار إليها بقوله صلى الهة عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه: “ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه, ولئن استعاذني لأعيذنه”…” جامع العلوم والحكم.
وقد دلت الحوادث والوقائع على معنى ذلك كما في قصة الثلاثة الذين آووا إلى الغار, فنزلت عليه صخرة سدت فم الغار فدعوا الله بصالح أعمالهم ففرج الله عنهم. متفق عليه.
وفي قصة موسى عليه السلام وفرعون آية, فالأول ذكر الله في الرخاء فلمَّا نزلت به الشدة عرفه الله، والآخر لم يذكر اله في الرخاء فلما نزلت به الشدة قال: “آمنت” فقال الله له: “آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ”.