الأشهر الحُرُم أشهرٌ كريمةٌ فاضلةٌ، لها حرمتُها عند الله تعالى، اختصها ربُّنا دون شهور العام، فأمر بتعظيم حرمتها، ونهى عن الظلم فيها.. فهذا نداء الله تعالى للمؤمنين: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ” (المائدة)، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: “شعائر الله: محارمه، أي لا تُحلوا محارم الله التي حرَّمها الله تعالى؛ ولهذا قال تعالى: “وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ” (المائدة)، يعني بذلك تحريمه، والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال، وتأكيد اجتناب المحارم”.
تعيين الأشهر الحرم
قال تعالى: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ” (التوبة).
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم خطب في حجة الوداع فقال في خطبته: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان”.
فقد بيَّن القرآن الكريم أن السَّنَة القمرية التي بها يكون حساب الشرع مقسمةٌ إلى اثني عشر شهرًا، وقد اختص الله من بينهم أربعة أشهر جعلها حرامًا، وقد بيَّن الحديث تعيين هذه الأشهر الأربعة، أنها ثلاثة أشهر متوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وشهر رجب الذي يقع بين جمادى وشعبان، وهو الشهر الذي كانت تحرمه قبيلة مضر في الجاهلية وتسميه باسمه، وليس الشهر الذي كانت تحرمه قبيلة ربيعة بدلاً منه وهو شهر رمضان؛ حيث إنهم كانوا يبدلون الأشهر الحرم حسب أهوائهم، حتى جاء الإسلام فردَّ الأمورَ إلى نصابها.
كيف نعظِّم حرمة هذه الأشهر
تشترك الأشهر الحُرُم في آداب وأحكام ينبغي للمسلم أن يتعلمها ويعمل بها؛ حتى يكون من الذين يعظِّمون حرمات الله “وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ” (الحج).
1- تجنب الوقوع في الآثام، خصوصًا في هذه الأشهر؛ لأن الآثام تضاعفت فيها لحرمتها، مثل مضاعفتها إذا ارتُكبت في البلد الحرام مكة، قال تعالى: “فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ” (التوبة)، قال ابن عباس: “..الشهور كلها، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حرامًا وعظَّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم”.
2- الإكثار في هذه الأشهر من الأعمال الصالحة، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى ذلك بقوله: “صُمْ من الحُرُم واترك، صُمْ من الحُرُم واترك، صُمْ من الحُرُم واترك”، وقال بأصابعه الثلاثة فضمَّها ثم أرسلها، (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه)، أي أشار بصيام ثلاث أيام وفطر ثلاثة أخرى، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم.
3- أما النهي عن القتال في هذه الأشهر فقد اختلف العلماء في حكمه، هل تحريمه باقٍ على ما كان عليه الأمر في أول الإسلام أم أنه نُسِخَ؟ فالجمهور على أنه نُسِخَ، وذهبت طائفةٌ إلى بقاء تحريمه.
فضل شهر الله محرَّم الحرام
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أنه قال: “أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل”، فالصيام في هذا الشهر هو أفضل الصيام بعد رمضان.
ويتأكد استحباب صيام اليوم العاشر من هذا الشهر، فهو يوم نجاة نبي الله موسى عليه السلام وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى عليه السلام شكرًا لله، وصامَه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فعن ابن عباس قال: قدِم رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: “ما هذا اليوم الذي تصومونه”؟! قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: “فنحن أحق وأولى بموسى منكم” فصامه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأمر بصيامه. (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: “يكفر السنة الماضية” (رواه مسلم)، ويستحب أيضًا صيام يم التاسع لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قبل وفاته: “لئن بقيت إلى قابل -يعني العام القادم- لأصومن التاسع” (رواه مسلم).