من دُرَرِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (الحلقة التاسعة والعشرون) د. محمد أبوالفتح

– الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَىَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ. متفق عليه.

– تأملات في الدُّرة:
في هذه الدرة النبوية نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن أمور هي:
– “قيل وقال”: ومعناه الخوض فيما لا يعنينا من أخبار الناس وأحوالهم وتصرفاتهم.
– “كثرة السؤال”: ومعناه السؤال عما لا تدعو الحاجة إليه على وجه التكلف.
– “إضاعة المال”: هو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وذلك بإنفاقه في المحرمات، أو الإسراف في المباحات.
– “عقوق الأمهات”: إلحاق الأذى بهن، بالقول أو الفعل أو عصيانهم في غير معصية الخالق عز وجل.
– “وأد البنات”: أي دفنهم وهن حيات.
– “منع وهات”: أن يمنع الرجل ما توجب عليه من الحقوق، ويطالب بما لا يستحقه.

– وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذا الحديث من الفوائد:
– النهي عن الخوض فيما لا يعنينا من الكلام، وعن نقل الأقوال من غير تثبت، كما قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ” (الحجرات6)، وفي قراءة “فتثبتوا”. وقال تعالى في قصة الإفك: “إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ” (النور15)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا” (صحيح الجامع2846)، وقال عمر وابن مسعود رضي الله عنهما: “بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ” (مسلم في المقدمة).
– النهي عن السؤال على وجه التكلف، كالسؤال عما لم يقع، أو عما لا تدعو الحاجة إليه، كما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ” (المائدة101)، وفي الصحيح: “كَرِهَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- المَسَائِلَ وَعَابَهَا” (متفق عليه). وأما السؤال عما يُحتاج إليه في الدين فإنه مطلوب شرعا، كما قال تعالى: “فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” (النحل43).
– النهي عن إضاعة المال وتبذيره، كما قال تعالى: “وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً- إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً” (الإسراء26-27).
– تحريم عقوق الأمهات، واقتصر هنا على الأمهات دون الآباء لأن حرمتهن آكد، كما قال تعالى: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” (لقمان14)، وقال سبحانه: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً…” (الأحقاف15). فأوصى الله بالوالدين في الآيتين، ثم خص الأم بذكر ما لها من الفضل على ولدها بحمله وإرضاعه، وفي هذا تأكيد على حقها، وإشارة إلى تقديمها على الوالد، ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي، قَالَ: «أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ». متفق عليه.
– تحريم وأد البنات، كما قال تعالى: “وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ” (التكوير8)، وقد كان هذا من العادات الجاهلية القبيحة، حيث كانوا يكرهون البنات خوفا من العار، كما قال تعالى: “وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ” (النحل58-59). وقد عادت هذه العادة السيئة -أعني قتل الأولاد- في صورة عصرية جديدة، وهي ما يسمى بالإجهاض، وهو أعم من وأد البنات، لكونه اعتداء على الجنين بغض النظر عن جنسه.
– تحريم منع الحقوق الواجبة، والمطالبة بما لا يستحق، وقد كثر في زماننا إضاعة الواجبات، مع المطالبة بما يُزعم أنها حقوق، فصار الناس يمنعون حق غيرهم، ويطالبون بما ليس لهم. والله المستعان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *