خبيئة العمل الصالح

الخبيئة هي العمل الصالح الخفي الذي لا يعلم به إلا الله تعالى كصدقة السر، وكمن ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وكمن صلى بالليل وأهله نيام، ونحو ذلك من الطاعات.
ويجب على كل مسلم أن يخلص العبادة لله تعالى، وأن يحذر من الرياء قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110]، وقال عز وجل:(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البيِّنة:5].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال الله تعالى: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه” (رواه مسلم)، وفي رواية لأحمد وابن ماجه بإسناد صحيح أنه قال: “فأنا منه بريء وهو للذي أشرك”.
إن أعمال السر لا يثبت عليها إلا الصادقون، فهي زينة الخلوات بين العبد وبين ربه، كالصلاة في آخر الليل يناجي ربه وحده، وكصدقة السر، وكالدعاء بظهر الغيب، وكمن ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
وليعلم كل امرئ أن الشيطان لا يرضى ولا يقر إذا رأى من العبد عمل سر أبدًا، وإنه لن يتركه حتى يجعله في العلانية؛ ذلك لأن أعمال السر هي أشد على الشيطان وأبعد عن مخالطة الرياء والعجب والشهرة. وإذا انتشرت أعمال الطاعات بين المسلمين ظهرت البركة وعم الخير بين الناس.
إذ إنها لا تخرج إلا من قلب كريم قد ملأ حب الله سويداءه، وعمت الرغبة فيما عنده أرجاءه، فأنكر نفسه في سبيل ربه، وأخفى عمله يريد قبوله من مولاه، كالصدقة التي تخفي ما تنفق يمينها، وكمن ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
وقد نَصحَنَا النبي صلى الله عليه وسلم بالخبيئة صالحة؛ فقال: “من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل” رواه أحمد في الزهد وصححه الألباني.
وقد حث الصحابة على عمل الخير في الخفاء، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: “اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصالح كما أن لكم خبيئة من العمل السيء”.
والخبيئة من العمل الصالح هو العمل الصالح المختبئ يعني المختفي، والزبير رضي الله عنه هنا ينبهنا إلى أمر نغفل عنه وهو المعادلة بين الأفعال رجاء المغفرة؛ فلكل إنسان عمل سيء يفعله في السر، فأولى له أن يكون له عمل صالح يفعله في السر أيضاً لعله أن يغفر له الآخر.
وحث السلف الصالح على ذلك أيضا فقال سفيان بن عيينة؛ قال أبو حازم: (اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك). السير6/967.
وقال أيوب السختياني: (لأن يستر الرجل الزهد خير له من أن يظهره) السير6/15.
قال أيوب السختياني: (والله ما صدق عبد إلا سرَّه ألا يُشعر بمكانه) السير6/15.
وقال إبراهيم بن أدهم:(ما اتقى الله من أحب الشهرة) السير 7/387.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يذهب إلى بيت امرأة عجوز كفيفة البصر، فيكنس بيتها، ويحلب شاتها، ولحقه ذات يوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما خرج سأل العجوز عنه. فقالت: يأتيني كل يوم فيعمل كذا وكذا، فبكى عمر رضي الله عنه؛ وقال: ويحك يا عمر أعثرات أبي بكر تتبع يا عمر!!
وحصل مثل ذلك بين عمر بن الخطاب وطلحة رضي الله عنهما، حيث كان عمر يذهب لبيوت الأرامل فيقضي حوائجهم فلحقه طلحة بن عبيد الله، فدخل بعده تلك البيوت فوجدهم أرامل لا يعلمون أنه عمر، فقال طلحة: أعثرات عمر تتبع يا طلحة.
وكان علي بن الحسين يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: (إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب) رواه أبو نعيم في الحلية 3/135، وذكره الذهبي في السير4/393.
وعن يوسف بن عطية عن محمد بن واسع قال:” لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه”.
وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
وقال حماد بن زيد:” كان أيوب ربما حدث بالحديث، فيبكي، ويلتفت، ويمتخط، ويقول:ما أشد الزكام”.
وقال نُعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول:” ما رأيت أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة” السير 8/48.
وروى الذهبي عن الخريبي قال:” كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح، لا تعلم به زوجته ولا غيرها” السير9/346.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *