* الدُرَّة المنتقاة:
عن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : «ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ، فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِي، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) متفق عليه.
* تأملات في الدُّرة:
في هذا الحديث وعيد شديد في حق ثلاثة أشخاص وهم:
1- من منع ما زاد عن حاجته من الماء عن ابن السبيل.
2- من بايع إماما على الدنيا وليس على إقامة شرع الله.
3- من حلف بعد العصر بالله كاذبا ليبيع سلعته باليمين الفاجرة.
* وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة من الفوائد:
1- إثبات صفة النظر لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وهي ثابتة في قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (آل عمران77).
2- أن الله تعالى يزكي من يشاء، وأن بعض المعاصي قد تتسبب للعبد في الحرمان من تزكية الله له. قال تعالى: “وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” (النور21). وقال : “وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (البقرة258)، “وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ” (البقرة264)، “وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ” (المائدة108).
3- تحريم منع فضل الماء عن ابن السبيل، وكذا لا يجوز أخذ العوض عليه؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء. (رواه مسلم).
4- أَن صَاحب المَاء أولى بِهِ عِنْد حَاجته، لأن الوعيد جاء فيمن منع الزائد عن حاجته.
5- النهي عن مبايعة إمام المسلمين على الدنيا، وتعليق السخط عليه والرضى عنه على ما يعطيه من الدنيا، قال ابن حجر: “وفي الحديث وعيد شديد في نكث البيعة، والخروج على الإمام؛ لما في ذلك من تفرق الكلمة، ولما في الوفاء من تحصين الفروج، والأموال، وحقن الدماء. والأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على أن يعمل بالحق، ويقيم الحدود، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فمن جعل مبايعته لمال يُعطاه دون ملاحظة المقصود في الأصل، فقد خسر خسرانا مبينا، ودخل في الوعيد المذكور، وحاق به إن لم يتجاوز الله عنه، وفيه أن كل عمل لا يقصد به وجه الله، وأريد به عرض الدنيا فهو فاسد، وصاحبه آثم. والله الموفق”. (الفتح 13/203)، كما قال تعالى في شأن المنافقين: “وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ” (التوبة58)، وقال صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِي، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» (البخاري).
6- هذا الحديث يكشف عورة أخرى من عورات الديمقراطية، فإنها تنبني على انتخاب الناس لمن يوفر لهم ما يطمعون فيه من متاع هذه الدنيا الفانية، وما أقل ما يلتزمُون، وهذا مخالف تماما لنظام الحكم الإسلامي الذي ينبني على مبايعة الناس لإمامهم على إقامة شرع الله، وعلى الطاعة في المعروف، ولهذا كان الجيل الأول يبايعون على أن يعطوا وليس على أن يأخذوا، يبايعون على أن يبذلوا أنفس ما عندهم في سبيل الله، قال تعالى: “إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (التوبة111). وأما نحن فنبايع وننتخب على الدنيا، ولذلك سادوا الأمم، وصرنا أذل الناس.
7- تحريم اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهي أن يحلف كاذبا لينتزع مال المسلم بالخداع، بل إنه قد جاء النهي عن الحلف في البيع مطلقا ولو كان صادقا، فينبغي أن يُجَلَّ اسم الله تعالى عن أن يباع به ويشترى، قال صلى الله عليه وسلم: «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» متفق عليه.