نعم كانوا إذا رأوا شخصاً قد أفرد وجمع على شيخ معتبر وأجيز وتأهل فأراد أن يجمع القراءات في ختمة على أحدهم لا يكلفونه بعد ذلك الإفراد؛ لعلمهم بأنه قد وصل إلى حد المعرفة والإتقان؛ كما وصل الأستاذ أبو العز القلانسي إلى الإمام أبي القاسم الهذلي حين دخل بغداد فقرأ عليه بمضمن كتابه الكامل في ختمة واحدة.
ولما دخل الكمال بن فارس الدمشقي مصر وقصده قراء أهلها لانفراده بعلو الإسناد وقراءة الروايات الكثيرة على الكندي فقرأوا عليه بالجمع للإثني عشر بكل ما رواه عن الكندي من الكتب.
ورحل الشيخ علي الديواني من واسط إلى دمشق فقرأ على الشيخ إبراهيم الإسكندري بها بمضمن التيسير والشاطبية في ختمة.
ورحل الشيخ نجم الدين بن مؤمن إلى مصر من العراق فقرأ على الشيخ تقي الدين بن الصائغ بمضمن عدة كتب جمعاً.
وكذلك رحل شيخنا أبو محمد بن السلار فقرأ على الصائغ المذكور ختمة جمعاً بضمن التيسير والشاطبية والعنوان.
ورحل بعده شيخنا أبو المعالي بن اللبان فقرأ ختمة جمعاً للثمانية بمضمن عقد اللآلي وغيرها على أبي حيان.
وأول ما قرأت أنا على اللبان قرأت عليه ختمة جمعاً بمضمن عشرة كتب؛ ولما رحلت أولاً إلى الديار المصرية قرأت جمعاً بالقراءات الإثني عشر بمضمن عدة كتب على أبي بكر بن الجندي؛ وقرأت على كل من ابن الصائغ والبغدادي جميعاً بمضمن الشاطبية والتيسير والعنوان؛ ثم رحلت ثانياً وقرأت على الشيخين المذكورين جمعاً للعشرة بمضمن عدة كتب؛ وزدت في جمعي على البغدادي فقرأت لابن محيصن والأعمش والحسن البصري (فهذه) طريقة القوم رحمة الله وهذا دأبهم.
وكانوا أيضاً في الصدر الأول لا يزيدون القارئ على عشر آيات ولو كان من كان لا يتجاوزون ذلك؛ وإلى ذلك أشار الأستاذ أبو مزاحم الخاقاني حيث قال في قصيدته التي نظمها في التجويد وهو أول من تكلم فيه فيما أحسب.
وحكمك بالتحقيق إن كنت آخذاً على أحد أن لا تزيد على عشر
وكان من بعدهم لا يتقيد بذلك بل يأخذ بحسب ما يرى من قوة الطالب قليلاً وكثيراً إلا أن الذي استقر عليه عمل كثير من الشيوخ هو الأخذ في الأفراد بجزء من أجزاء مائة وعشرين وفي الجمع بجزء من أجزاء مائتين وأربعين وروينا الأول عن بعض المتقدمين.. الخ.
وقال السيوطي في الإتقان 1/271: في فصل في كيفية الأخذ بإفراد القراءات وجمعها:
الذي كان عليه السلف أخذ كل ختمة برواية لا يجمعون رواية إلى غيرها أثناء المائة الخامسة؛ فظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة واستقر عليه العمل، ولم يكونوا يسمحون به إلا لمن أفرد القراءات وأتقن طرقها وقرأ لكل قارئ بختمة على حدة، بل إذا كان للشيخ راويان قرؤوا لكل راو بختمة ثم يجمعون له وهكذا.
وتساهل قوم فسمحوا أن يقرأ لكل قارئ من السبعة بختمة سوى نافع وحمزة، فإنهم كانوا يأخذون ختمة لقالون ثم ختمة لورش ثم ختمة لخلف ثم ختمة لخلاد، ولا يسمح أحد بالجمع إلا بعد ذلك…
أما عن كيفية الجمع بين القراءات فقد أشار إلى ذلك الإمام السيوطي فقال في الإتقان 1/271:
ثم لهم في الجمع مذهبان:
أحدهما: الجمع بالحرف بأن يشرع في القراءة فإذا مر بكلمة فيها خُلْفٌ أعادها بمفردها حتى يستوفي ما فيها ثم يقف عليها إن صلحت للوقف وإلا وصلها بآخر وجه حتى ينتهي إلى الوقف؛ وإن كان الخلف يتعلق بكلمتين كالمد المنفصل وقف على الثانية واستوعب الخلاف وانتقل إلى ما بعدها. وهذا مذهب المصريين وهو أوثق في الاستيفاء وأخف على الآخذ لكنه يخرج عن رونق القراءة وحسن التلاوة.
الثاني: الجمع بالوقف بأن يشرع بقراءة من قدَّمه حتى ينتهي إلى وقف ثم يعود إلى القارئ الذي بعده إلى ذلك الوقف ثم يعود وهكذا حتى يفرغ؛ وهذا مذهب الشاميين وهو أشد استحضارا وأشد استظهارا وأطول زمنا وأجود مكانا وكان بعضهم يجمع بالآية على هذا الرسم. اهـ.
إلى هنا انتهت حلقة هذا العدد وفي العدد القادم سنتعرض إن شاء الله تعالى لترجمة الإمام ابن بري رحمه الله تعالى.