من فقه البيوع النوع الثالث من البيوع المحرمة: بيوع الربا (الحلقة الثانية عشرة) تحريم الحيل الربوية (النهي عن سلف وبيع) ياسين رخصي

عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك”(1).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحيل الربوية.
قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل سلف وبيع”:
قال الخطابي: “وذلك مثل أن يقول: “أبيعك هذا العبد بخمسين دينارا على أن تسلفني ألف درهم…”، وذلك فاسد لأنه يقرضه على أن يحابيه [أي يسامحه] في الثمن، فيدخل الثمن في حد الجهالة، ولأن كل قرض جر منفعة فهو ربا”(2).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: “وأما [النهي عن] السلف والبيع: فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة: فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك. فظهر سر قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع” وقول ابن عمر: “نهى عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع” واقتران إحدى الجملتين بالأخرى لما كانا سُلَّماً إلى الربا. ومن نظر في الواقع وأحاط به علما فهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه، ونزله عليه، وعلم أنه كلام من جمعت له الحكمة، وأوتي جوامع الكلم، فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه أفضل ما جزى نبيا عن أمته. وقد قال بعض السلف: اطلبوا الكنوز تحت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولما كان موجب عقد القرض رد المثل من غير زيادة كانت الزيادة ربا. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا اشترط على المستسلف زيادة أو هدية، فأسلف على ذلك: أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي عن ابن مسعود وأبي ابن كعب وابن عباس أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، وكذلك إن شرط أن يؤجره داره، أو يبيعه شيئا: لم يجز لأنه سلم إلى الربا، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
[منع السلف قبول هدية المقترض إلا أن يحتسبها المقرض من الدين]
ولهذا منع السلف رضي الله عنهم من قبول هدية المقترض إلا أن يحتسبها المقرض من الدين. فروى الأثرم: أن رجلا كان له على سماك عشرون درهما، فجعل يهدي إليه السمك وقومه، حتى بلغ ثلاثة عشر درهما، فسأل ابن عباس، فقال: أعطه سبعة دراهم.
وروى عن ابن سيرين: أن عمر أسلف أبي ابن كعب عشرة آلاف درهم، فأهدى إليه أبي من ثمرة أرضه، فردها عليه ولم يقبلها، فأتاه أبي فقال: لقد علم أهل المدينة أني من أطيبهم ثمرة، وأنه لا حاجة لنا، فبم منعت هديتنا؟ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل، فكان رد عمر لما توهم أن تكون هديته بسبب القرض، فلما تيقن أنها ليست بسبب القرض قبلها، وهذا فصل النزاع في مسألة هدية المقترض.
وقال زر ابن حبيش: قلت لأبي بن كعب: إني أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق، فقال: إنك تأتي أرضا فاش بها الربا، فإن أقرضت رجلا قرضا فأتاك بقرضك ليؤدي إليك قرضك ومعه هدية، فاقبض قرضك واردد عليه هديته. ذكرهن الأثرم.
وفي صحيح البخاري عن أبي بردة ابن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله ابن سلام -فذكر الحديث- وفيه: ثم قال لي إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل دين، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل قت، أو حمل شعير فلا تأخذه فإنه ربا. قال ابن أبي موسى: ولو أقرضه قرضا، ثم استعمله عملا لم يكن يستعمله مثله قبل القرض، كان قرضا جر منفعة، قال: ولو استضاف غريمه، ولم تكن العادة جرت بينهما بذلك حُسِبَ له ما أكله”(3).
وقد عَدَّ أهل العلم في معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع: سلف وإيجار، مثل أن يقول: أقرضك مبلغ كذا على أن تؤجرني دارك بمبلغ كذا، فإن هذا يفضي إلى أن يحابي المقترضُ المقرضَ في ثمن الإيجار، فيؤجره داره بثمن أقل، فيكون من القرض الذي جر نفعا، وهو ربا.
والمالكية لا يقصرون النهي على البيع والسلف، بل يمنعون الجمع بين كل عقد معاوضة وسلف، فلا يجوز عندهم اجتماع شركة أو قِراض أو مساقاة أو صرف أو إجارة مع السلف(4)، وهذا بناء على أصلهم في سد أبواب ذرائع الفساد.
قال العلامة محمد يحيى الولاتي:
وسد أبواب ذرائع الفساد فمالك له على ذهِ اعتماد(5)
والله الموفق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- أخرجه أصحاب السنن الأربعة.
(2)- “عون المعبود” (6/357).
(3)- “عون المعبود” (6/360-361).
(4)- أنظر “حاشية الدسوقي” (3/76).
(5)- “إيصال السالك في أصول الإمام مالك” ص:50.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *