فضّل الله تعالى بعض الأيام والليالي والشهور على بعض، حسبما اقتضته حكمته البالغة، ليجدّ العباد في وجوه البر، ويكثروا فيها من الأعمال الصالحة، ولكن شياطين الإنس والجن عملوا على صد الناس عن سواء السبيل، وقعدوا لهم كل مرصد، ليحولوا بينهم وبين الخير، فزيَّنوا لطائفة من الناس أن مواسم الفضل والرحمة مجال للهو والراحة، وميدان لتعاطي اللذات والشهوات.
ولعل من أبرز تلك المواسم البدعية ما يقوم به بعض العباد في شهر رجب من أعمال مخالفة للهدي النبوي ظنا منهم -بحسن قصد- أنها محض الشريعة.
وتوضيحا للمحجة وإزالة للشبهة نورد بالدليل ما ثبت في حق هذا الشهر المبارك الجليل.
هل لـرجب فضل على غيره من الشهور؟
عن أبي بكرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، والسنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان”. متفق عليه
قال أبو شامة: “ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان ليس لبعضها على بعض فضل، إلا ما فضله الشرع وخصه بنوع من العبادة، فإن كان ذلك، اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها، كصوم يوم عرفة وعاشوراء”.
تخصيص رجب بصيام أو اعتكاف:
قال ابن حجر: “لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه من غيره. (تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب).
وكونه لم يرد في فضل صيام رجب بخصوصه شيء لا يعني أنه لا صيام تطوع فيه مما وردت النصوص العامة فيه وفي غيره، كالإثنين، والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم وإفطار آخر، وإنما الذي يكره كما ذكر العلامة الطرطوشي صومه على أحد ثلاثة أوجه:
1- إذا خصه المسلمون في كل عام -حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة-، مع ظهور صيامه أنه فرض كرمضان، واعتقاد أن صومه سنّة ثابتة خصه الرسول بالصوم كالسنن الراتبة.
2- اعتقاد أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام سائر الشهور، وأنه جارٍ مجرى عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان كذلك لبينه النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله ولو مرة في العمر، ولما لم يفعل: بطل كونه مخصوصاً بالفضيلة. (البدع والحوادث، ص110-111)
صلاة الرغائب
وهي من البدع المحدثة في شهر رجب، وتكون في ليلة أول جمعة من رجب بين صلاة المغرب والعشاء، يسبقها صيام الخميس الذي هو أول خميس في رجب .
والأصل فيها حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أنظر تخريج الإحياء 1/202، وتبيين العجب فيما ورد في فضل رجب، ص: 22-24).
قال النووي: هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات فيتعين تركها والإعراض عنها، وإنكارها على فاعلها. (فتاوى الإمام النووي، ص:57)
وقد أبان العلامة الطرطوشي المالكي بداية وضعها، فقال: “وأخبرني أبو محمد المقدسي، قال: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمئة، قدم علينا في بيت المقدس رجل من نابلس، يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان… إلى أن قال: وأما صلاة رجب فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا بعد سنة ثمانين وأربعمئة، وما كنا رأيناها ولا سمعنا بها قبل ذلك” (الحوادث والبدع ص:103).
الإسراء والمعراج:
من أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإسراء به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم العروج به إلى السماوات السبع فما فوقها، وقد انتشر في بعض البلدان الاحتفال بذكراها في ليلة السابع والعشرين من رجب، ولا يصح كون ليلة الإسراء في تلك الليلة.
قال ابن حجر عن ابن دحية: “وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، قال: وذلك كذب”( تبيين العجب، ص 6).
وقال ابن رجب: “وروي بإسناد لا يصح، عن القاسم بن محمد، أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره”. (زاد المعاد1/275)
وذكر ابن حجر في الفتح (7/242-243) الخلاف في وقت المعراج، وأبان أنه قد قيل: إنه كان في رجب، وقيل: في ربيع الآخر، وقيل: في رمضان أو شوال، والأمر كما قال ابن تيمية.
قال ابن تيمية: “لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به”. (لطائف المعارف، لابن رجب، ص 233).
على أنه لو ثبت تعيين ليلة الإسراء والمعراج لما شرع لأحد تخصيصها بشيء، لأنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من صحابته أو التابعين لهم بإحسان أنهم جعلوا لليلة الإسراء مزية عن غيرها، فضلاً عن أن يقيموا احتفالاً بذكراها، بالإضافة إلى ما يتضمنه الاحتفال بها من البدع والمنكرات.(ذكر بعض تلك المنكرات: ابن النحاس في تنبيه الغافلين، ص 497، وابن الحاج في المدخل، 1/211-212، وعلي محفوظ في الإبداع، ص:272).
ويلحق بذلك ما يقوم به بعض الناس من صيام يوم الإسراء والمعراج إذ لم يثبت فيه دليل صحيح لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.