من فقه البيوع النوع الثاني من البيوع المحرمة: بيوع الغرر (1) الحلقة الثانية: بيع الملامسة والمنابذة ياسين رخصي

عن أبي هريرة رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة” (رواه البخاري: 2146 ومسلم:1511).

اشتمل هذا الحديث على حكم نوعين من بيوع الجاهلية، وهما: بيع الملامسة، وبيع المنابذة.
تعريف الملامسة
– لغة: من اللمس وهو المس باليد.
– شرعا: فسرت بأقوال متقاربة حاصلُها: اكتفاء الرجل في شراء الثوب بلمسه دون نشره وتقليبه والنظر إليه، متى مسه فلا خيار له في رده .(2)
وهذا مأثور عن أبي سعيد الخدري، قال رضي الله عنه: “الملامسة أن يمسه (أي: الثوب) بيده، ولا ينشره، ولا يقلبه، إذا مسه فقد وجب البيع” (أخرجه البخاري ومسلم).

تعريف المنابذة
– لغة: من النبذ: وهو طرحك الشيءَ أمامك أو وراءك . (3)
– شرعا: في تفسيرها أقوال حاصلها: طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، متى نبذ إليه الثوب فقد وجب البيع، ولا خيار للمشتري في رده. وهذا مأثور من أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أخرجه البخاري ومسلم).

حكم بيع الملامسة والمنابذة
 قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في تفسير الملامسة والمنابذة: “والبيع على التأويلات كلها باطل” .(4)
 وقال النووي: “وهذا البيع باطل للغرر”(5) .

العلة في تحريم بيع الملامسة والمنابذة
 قال الشوكاني: “والعلة في النهي عن الملامسة والمنابذة: الغرر، والجهالة، وإبطال خيار المجلس ” .(6) (7)
 ومن العلل التي ذكر العلماء أنها بيوع تؤول إلى ظلم أحد الطرفين لصاحبه، وأكل ماله بغير حق، مما يفضي إلى الخصومة والشقاق، والعداوة والبغضاء.

فوائد:
1- الفائدة الأولى: في الحديث دليل لما يذكره أهل العلم في شروط صحة البيع: “أن يكون المعقود عليه معلوما غير مجهول”؛ وعليه فكل بيع يكون المبيع فيه مجهولا غير معلوم برؤية أو صفة، فهو بيع فاسد داخل فيما نُهي عنه من بيوع الغرر.
2- الفائدة الثانية: أخذ العلماء من النهي عن بيع الملامسة والمنابذة ونحوهما من بيوع الغرر أن كل بيع مشتمل على الجهالة والمخاطرة، يكون العاقد فيه إما غانما (أي رابحا)، وإما غارما (أي خاسرا): داخل في القمار والميسر .(8)
 قال الحافظ بعد أن ذكر إحدى صور المنابذة: “فهذا من أبواب القمار” .(9)
 وقال العلامة عبد الرحمان السعدي: “…وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، فيدخل فيه: بيع (العبد) الآبق و(الجمل) الشارد والحمل في البطن، والمجهولات التي يُجهل هل تحصل أم لا، أو يُجهل مقدارها أو صفاتها، وكلها داخلة في الميسر” .(10)
3- الفائدة الثالثة: إذا عُلِم أن بيوع الغرر -ومنها الملامسة والمنابذة- حُرِّمَت لما اشتملت عليه من الجهالة والمخاطرة، فينبغي أن يُفرَّق بين نوعين من المخاطرة: مخاطرة التجارة، ومخاطرة الميسر.
قال شيخ الإسلام فيما نقله عنه تلميذه ابن القيم: “والمخاطرة مخاطرتان: مخاطرة التجارة، وهو أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها ويربح ويتوكل على الله في ذلك، والخطر الثاني: الميسر، الذي يفضي إلى أكل المال بالباطل، فهذا الذي حرمه الله تعالى ورسوله، مثل: بيع الملامسة والمنابذة.. بخلاف التاجر الذي قد اشترى السلعة ثم بعد هذا نقص سعرها، فهذا من الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد فيه حيلة..” .(11)
4- الفائدة الرابعة: قال بعض أهل العلم من الشافعية: “…وفي النهي عن الملامسة دليل على أن شراءَ الأعمى وبيعَه باطل، لأنه لا طريق له إلى رؤيته”. لكن رد هذا القولَ جمهورُ أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والظاهرية، وبعض الشافعية، وقالوا: إن أمكنه معرفة المبيع بالذوق أو الشم، أو أن يصفه له آخرُ وصفا يقوم مقام النظر جاز. ومن حجتهم أن الناس تعارفوا معاملة العميان منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سائر الأعصار من غير إنكار، فكان كالإجماع على جواز البيع والشراء منهم .(12)
قال ابن القيم في معرض سياقه لإقرارات النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “..ومنه تقريرهم على مبايعة عميانهم وشرائهم بأنفسهم من غير نهي لهم عن ذلك يَوْماً ما، وهو يعلم أن حاجة الأعمى إلى ذلك كحاجة البصير” . (13)
والله الموفق

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – سبق في الحلقة الماضية من كلام شيخ الإسلام أن بيع الغرر: كل بيع مجهول العاقبة.

[2] – انظر فيض القدير للمناوي 6/418.

[3] – القاموس المحيط (1/499).

[4] – الفتح (4/454).

[5] – شرح مسلم (10/151).

[6] – الأصل في ثبوت خيار المجلس قوله صلى الله عليه وسلم: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا…” (متفق عليه)، فما دام العاقدان – البائع والمشتري – في مجلس العقد، فكل واحد منهما مخير في إمضاء العقد أو فسخه، فإذا افترقا، أو اتفقا على أنه لا خيار بينهما فقد تم العقد، ولا يجوز لواحد منهما أن يرجع في البيع إلا أن يرضى الآخر إقالته (انظر “تيسير العلام” لآل بسام: 2/612).

[7] – نيل الأوطار (5/247).

[8] – انظر “شرح بلوغ المرام” للعلامة ابن عثيمين (3/538).

[9] – الفتح (4/454).

[10] – القواعد والأصول الجامعة (ص: 119).

[11] – زاد المعاد: (5/723).

[12] – أنظر “بدائع الصنائع” للكاساني (5/164).

[13] – إعلام الموقعين (4/262).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *