من فقه البيوع أحكام المال الحرام حكم الانتفاع بالمال الحرام في بناء المساجد (الحلقة: الخامسة عشرة)

عرفنا فيما سبق من الحلقات أن سبيل التوبة من المال الحرام الذي أخذ بغير رضى صاحبه أن يرد إلى من أخذ منه أو إلى ورثته إن كان صاحب المال قد مات. فإن لم يعلم صاحب المال ولا ورثته، فإنه يتصدق بهذا المال على الفقراء والمساكين بنية عن صاحب المال.
وهكذا ما اكتسبه المسلم من مال حرام بسبب الاتجار في المحرمات كالخمر والمخدرات ونحو ذلك من وجوه الكسب المحرمة. فإن سبيل التوبة من هذه الأموال أن تصرف إلى الفقراء والمساكين، بنية التخلص منها، لا بنية الصدقة لأنه مال خبيث، وقد قال النبي صل الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا) رواه مسلم.
لكن ربما أبدى بعض الناس وجهة نظر في صرف هذه الأموال؛ مثل صرفها في بناء المساجد. فهل بناء المساجد يعتبر مصرفا شرعيا لمثل هذه الأموال؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول:
ذهب الحنفية في قول والشافعية وابن رشد من المالكية إلى جواز بناء المساجد من المال الحرام إن كان مجهول المالك، 1أما إذا كان مالك هذا المال معلوما فيجب أن يرد إليه ماله ولا يجوز تفويته عليه برده إلى غيره .
واحتج أصحاب هذا القول بأن المال الحرام الذي لم يعلم مالكه يصرف في مصالح المسلمين العامة كالقناطر، والطرق، والمساجد، والمستشفيات، ودور الأيتام، ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه وإلا فيتصدق به على فقراء أو مساكين.
وهذا القول مبني على اعتبار المال الحرام ملكا للفقراء والمساكين وللمصالح العامة دون تمييز بينها.
القول الثاني:
وهو قول في مذهب الحنفية، وقول ابن القاسم من المالكية أنه لا يجوز بناء المساجد من المال الحرام مطلقا2 ، واحتج أصحاب هذا القول بأن المال الحرام مال خبيث لا يصلح أن يجعل في بناء بيوت الله.
– وأن مصرف المال الحرام هو الفقراء والمساكين ولا ينبغي أن يصرف في المصالح العامة حتى لا يفوت هذا المال على الفقراء والمساكين.
– والذي يظهر في هذا أنه ينبغي أن يجتنب بناء المساجد من الأموال المحرمة صيانة لحرمتها، فإن الله تعالى أضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتعظيم كما قال سبحانه: “إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ” (التوبة:18).
وقد كانت العرب في جاهليتها تتحاشى أن تُدخل في بناء الكعبة كل كسب خبيث، كما روى ابن هشام في سيرته أن قريشا لما أجمعوا أمرهم على هدم الكعبة وإعادة بنائها من جديد قام أبو وهب عائذ بن عمران بن مخزوم -خال أب الرسول صل الله عليه وسلم- فتناول من الكعبة حجرا فوثب -أي الحجر- من يده حتى رجع إلى موضعه فقال: “يا معشر قريش 3لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس” .
فإذا كان أهل الجاهلية حريصين على أن لا يبنى بيت الله من مال حرام، فالمسلمون أولى بهذا منهم.
وممن قال بهذا القول من المعاصرين الشيخ وهبة الزحيلي، فقال في كتابه “الفقه الإسلامي وأدلته”:
“..أما الفوائد الربوية المترتبة على الأصل فالحكم الشرعي أنها لا تزكى وإنما هي مال خبيث، على المسلم أن لا ينتفع به، وسبيلها الإنفاق في وجوه الخير والمصلحة العامة ما عدا بناء المساجد وطبع المصاحف”.
وبالله التوفيق
——————–
1- انظر أحكام المال الحرام (ص305-307).
2- نفسه.
3- السيرة النبوية لابن هشام (1/150).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *