يا أهـل القـرآن! أيــن الغـيرة على القـرآن؟! ذ.محمد أبو الفتح

القرآن هو كلام الله المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فيه خَبَرُ ما قبلنا، ونبأ ما بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حَكَمَ به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.

فهو كتابٌ عظيم أكرمنا الله به دون سائر الأمم، وجعل نعمته علينا به من أجل النعم، فكان حقا لله علينا أن نقوم بشكر نعمته والنصح لكتابه، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قالوا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» (مسلم).
ومن النصيحة لكتاب الله: الإيمان به، وقراءته، وسماعه، وتدبر معانيه، والعمل بما فيه.
ومن الإيمان به أن نتلوه حق تلاوته، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة121)، ولا يكون ذلك إلا بتعلم قواعد التجويد، وأخذ التلاوة بالمشافهة عن الشيوخ، الذين يروونها بأسانيدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن تمام حسن التلاوة أن نرتل القرآن ترتيلا عملا بقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل4)، وأن نزينه بأصواتنا تزيينا عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» (صحيح الجامع)، وأن نتغنى به تَغَنِّياً لئلا يكون حَذرًا من قوله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» (صحيح الجامع).
والمقصود بالتغني بالقرآن وتزيين الصوت به ذلك التغني والتزيين السليقي الطبيعي، الذي يجتهد فيه كل مسلم بحسب ما آتاه الله من القدرة على ذلك، من غير تكلف لتعلم ألحان الغناء والموسيقى. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» (مسلم)، فهو شيء أوتيه، أي: أكرمه الله به وجبله عليه، ولم يكتسبه عن طريق تعلم المقامات الموسيقية.
ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بالتزيين ألحان الغناء أنه قال للصحابة الكرام في الحديث المتقدم: “زينوا القرآن بأصواتكم”، ولم يقل بألحان الغناء، تاركا المجال لكل صحابي ليجتهد في تزيين القرآن بصوته من غير أن يَحُدَّ لهم في ذلك ألحانا معينة، ولا أنغاما يلقنهم إياها، أو يرشدهم إلى تعلمها.
ومما يزيد الأمر بيانا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذم قوما يتخذون القرآن مزامير، ويغنون به، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “بادروا بالأعمال ستا: إمارة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوا يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها”. (صحيح الجامع 2812).
فَعُلِمَ أن هؤلاء الذين يتخذون القرآن مزامير، لم يقرؤوه على الوجه الذي قرأ به أبو موسى حين أقره النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه ما قال، وأن هذا الغناء بالقرآن الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء غير التغني الذي حثنا عليه.
وقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يقرؤون القرآن كما أخذوه عن نبييهم صلى الله عليه وسلم، ويتغنون به بسليقتهم من غير تكلف، وَلَقَّنوه لمن بعدهم كذلك، لا يعرفون قوانين الغناء ولا صنائع الموسيقى، حتى ظهرت بدعة قراءة القرآن بألحان الغناء فيمن جاء بعدهم، فأنكرها العلماء واستقبحوها منذ ظهورها إلى يومنا هذا، وهذه بعض النقول عن أهل العلم في ذلك:
 سأل سحنون ابن القاسم: أكان مالك يكره الغناء؟ فقال: “كره مالك قراءة القرآن بالألحان، فكيف لا يكره الغناء” (المدونة 4/421).
 وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة فقال: “لا يعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم” (مقدمة تفسير القرطبي 1/10).
 وقال ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة: “ولا يحل لك أن تتعمد سماع الباطل كله، ولا أن تتلذذ بسماع كلام امرأة لا تحل لك، ولا سماع شيء من الملاهي والغناء، ولا قراءة القرآن باللحون المرجعة كترجيع الغناء، وليجل كتاب الله العزيز أن يتلى إلا بسكينة ووقار، وما يوقن أن الله يرضى به، ويقرب منه مع إحضار الفهم لذلك” (الرسالة ص:154).
 قال صالح الأزهري في شرحه على الرسالة :”(ولا) يحل لك (قراءة القرآن) ولا سماعه (باللحون المرجعة) أي الأصوات المطربة (كترجيع الغناء) بالمد أي: المشبهة بالغناء (وليجل) أي يعظم وينزه (كتاب الله العزيز أن يتلى) أي يقرأ (إلا بسكينة ووقار) أي طمأنينة وتعظيم، فمرجع الطمأنينة إلى سكون الجوارح بحيث لا يعبث بيده، ولا ينظر إلى ما يلهي” (الثمر الداني 2/17).
 وسئل الإمام أحمد عن القراءة، بالألحان؟ فقال: “كل شيء محدث فإنه لا يعجبني، إلا أن يكون صوت الرجل لا يتكلفه”، قيل: ما لم يكن شيئا بعينه لا يعدوه؟ قال: نعم” (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال: 204).
 وفي رواية عنه قال: “بدعة لا يسمع” (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال: 206).
 وفي رواية ثالثة قال: “هو بدعة ومحدث”، قيل: تكرهه يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، أكرهه، إلا ما كان من طبع، كما كان أبو موسى، فأما من يتعلمه بالألحان فمكروه” ( (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال: 207)
 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء، ولا أن يقرن به من الألحان، ما يقرن بالغناء من الآلات وغيرها” (الاستقامة 246).
 وقال ابن القيم: ” التطريب والتغني على وجهين:
– أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به، من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خلي وَطَبْعَه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: “لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا”. والحزين، ومن هاجه الطرب والحب والشوق، لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحليه؛ لموافقته الطبع، وعدم التكلف، والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع، وعلى هذا الوجه تُحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
– الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة، على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف، وعابوها، وذموها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه.
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف، يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويسوغوها، ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه، وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: “ليس منا من لم يتغن بالقرآن” (زاد المعاد 1/463)
 وقال الإمام ابن كثير: “…والغرض أن المطلوب شرعًا، إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي، فالقرآن ينزه عن هذا، ويجل ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب، وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك”.
ثم ذكر أحاديث في الترهيب من قراءة القرآن بالألحان، منها الحديث المتقدم في الذين يتخذون القرآن مزامير.
ثم قال: “وهذا يدل على أنه محذور كبير، وهو قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة، رحمهم الله، على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا، فقد اتفق العلماء على تحريمه، والله أعلم (فضائل القرآن ص95-100).
ومن المشائخ المقرئين المعاصرين الذين أنكروا هذه البدعة التي روجت لها بعض الفضائيات المعروفة:
الشيخ المقرئ أحمد عبد العزيز الزيات، والشيخ المقرئ عبد الفتاح المرصفي، والشيخ المقرئ محيي الدين الكردي، والشيخ المقرئ عبد الغفار الدروبي، والشيخ المقرئ سعيد عبد الله، والشيخ المقرئ محمد سكر (انظر فتاوى هؤلاء المشائخ المقرئين وغيرهم من العلماء المعاصرين في رسالة: البيان لحكم قراءة القرآن بالألحان، لأيمن رشدي سويد).
فالمقامات التي يقرأ بها بعض الناس القرآن الكريم ويتكلفون تعلمها، مثل: مقام النهاوند، والسيكاه، والبياتي، والصبا، وغيرها، إنما هي مقامات موسيقية وُضِعَت أَوَّلَ ما وُضِعَت للغناء والموسيقى المحرمة (انظر هذه المقامات وغيرها في كتاب: (مقامات الموسيقى العربية، ص:20 فما بعدها)، لصالح المهدي، الرئيس المساعد للمجلس الدولي للموسيقى التقليدية).
فليتق الله قوم هان عليهم كلام الرحمن حتى قرؤوه بأنغام مزمار الشيطان . وأذكرهم بمقولة الفضيل بن عياض رحمه الله: “اتبع طرق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين”. (الاعتصام 1/135). وأذكرهم بنصيحة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: “يا معشر القراء! استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا” (أخرجه البخاري 7282).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *