“وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً”
قوله: “وقَضَى” من القضاء وهو ينقسم إلى قسمين:
قضاء شرعي: وحده العلماء بأنه قد يقع وقد لا يقع من المقضي عليه ولا يكون إلا فيما يحبه الله.
قضاء كوني: وحده العلماء بأنه لا بد من وقوعه ويكون فيما يحبه الله وفيما لا يحبه.
وإذا قيل كيف يقضي سبحانه ما لا يحبه؟
الجواب: المحبوب قسمان:
أ- محبوب لذاته.
ب- محبوب لغيره، وقد يكون مكروها لذاته، لكن يحب لما فيها من المصلحة والحكمة فيكون محبوبا من وجه مكروها من وجه آخر، مثاله: الجدب والقحط فهذه مكروهة لذاتها محبوبة لغيرها كما قال تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”.
والقضاء في هذه الآية شرعي وهو بمعنى شرع أو وصى أو أمر وما أشبه هذه الألفاظ.
والخطاب في قوله: “وَقَضَى رَبُّكَ” هو للنبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يقل تعالى بعدها “ألا تعبد” بل قال: “أَلاَّ تَعْبُدُواْ” وهذا ما يسميه علماء القرآن بخطاب الخصوص والمراد به العموم أو خطاب الجمع بعد الواحد.
والفائدة في التعبير بهذا الأسلوب:
أ- التنبيه.
ب- الخطاب الموجه إليه عليه الصلاة والسلام موجه لجميع الأمة.
ت- الإشارة إلى أن ما خوطب به عليه الصلاة والسلام فهو له ولأمته إلا ما دل الدليل على التخصيص.
وفي الآية إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مربوب لا رب، وعابد لا معبود، وعليه لا يجوز الغلو فيه ووصفه بما اتصف به الله سبحانه وتعالى.
أما قوله: “أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ” فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وهي أقسام:
أ- عبادة عامة، وهي للخلق كلهم بمعنى الخضوع العام.
ب- عبادة خاصة، وهي عبادة الصالحين.
ت- عبادة خاصة الخاصة، وهي للأنبياء والرسل الذين عبدوا الله حق العبادة.
والنفي والإثبات لبيان حقيقة التوحيد ذلك لأن النفي وحده تعطيل، والإثبات وحده لا ينفي المشاركة.
أما قوله: “وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً” فالمراد بهما الأب والأم ومن فوقهما، والإحسان بدل المعروف، وذكر حق الوالدين بعد حق الله دليل على عظم هذا الشأن.
أما قوله: “إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا” أي: لا تسمعهما قولا سيئا حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى الأشياء، ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح كما قال عطاء رحمه الله: “لا تنفضن يديك عليهما” ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول السيء أمره بالفعل الحسن والقول الجميل فقال تعالى: “وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً” أي: لينا طيبا بأدب، وتوقير وتواضع لهما في كبرهما وبعد وفاتهما.