“إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة” من آثار أسماء الله تعالى العليم، عالم الغيب وعلام الغيوب الحلقة الثانية والخمسون ناصر عبد الغفور

د- الأدلة على علم الله جل في علاه:
دلّ على علمه سبحانه وتعالى -سواء بالكليات أو الجزئيات-: السمع والعقل والإجماع:
– 1فأما السمع أو النقل فالأدلة على علمه عز وجل كثيرة جدا .
– وأما الإجماع فالأمة مجمعة على اتصاف البارئ جلّ شأنه بالعلم الكامل ولا يعتد بخلاف بعض المبتدعة والفلاسفة أصحاب الأقوال الشنيعة.
– وأما العقل فإنه يدلّ على علمه تعالى من عدة وجوه:
أ- ما من شيء إلا وله وصف أو صفات والله تعالى بالنسبة لصفة العلم إما أن يكون متصفا بها أو غير متصف بها، ومعلوم أن عدم الاتصاف بها نقص والله تعالى يتنزه عقلا عن النقص فثبت له الكمال..
ب- كثير من الناس يتصف بالعلم ولا ريب أن المنعم عليهم بذلك هو خالقهم جلّ ثناؤه، وهو كمال فيهم، وواهب الكمال أحق به.
ت- خلقه سبحانه لهذا الكون: فإنه لا يعقل أن يتمكن من ذلك وهو جاهل بهذا الكون الذي سيخلقه، فالخلق يستلزم بالإضافة إلى القدرة العلم، كما قال تعالى: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً” (الطلاق:12).
ح- هذا التخصيص الذي يتميز به الكون مع تمام الإحكام وكون الشمس خصصت لأمر دون القمر والأرض لأمر دون السماء والنجوم والجبال وغيرها كل ذلك يدل على كمال علمه سبحانه.
ج- وظائف الحواس والجوارح في الإنسان ونظام جسمه الدقيق المحكم يدل كذلك على علم خالق هذا الإنسان..
ومن الأدلة العقلية على علمه سبحانه بالجزئيات؛ ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حيث قال: “فثبت أنه يعلم الكليات لأنها معلومة والجزئيات لأنها معلومة أيضا، ولأنه مريد لإيجاد الجزئيات والإرادة للشيء المعين إثباتا ونفيا مشروطة بالعلم بذلك المراد الجزئي، فيعلم المرئيات للرائين ورؤيتهم لها على الوجه الخاص، وكذا المسموعات وسائر المدركات لما علم ضرورة من وجوب الكمال له، وأضداد هذه الصفات نقص والنقص ممتنع عليه سبحانه وتعالى، وهذا القدر كاف من الأدلة العقلية، وضل من زعم من 2الفلاسفة أنه سبحانه وتعالى يعلم الجزئيات على الوجه الكلي لا الجزئي” .
وقد بين الإمام ابن القيم أن سورة الفاتحة ترد على هؤلاء الضلال المنكرين لعلم الله تعالى بالجزئيات من عدة وجوه، فعقد رحمه الله في كتابه المدارج فصلا عنونه بقوله: “في بيان تضمنها -أي سورة الحمد- للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات” فذكر عشرة وجوه:
أحدها: كمال حمده، وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئا من العالم وأحواله وتفاصيله، ولا عدد الأفلاك ولا عدد النجوم، ولا من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدعوه ممن لا يدعوه؟
الثاني: أن هذا مستحيل أن يكون إلاها وأن يكون ربا، فلا بد للإله المعبود والربّ المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله.
الثالث: من إثبات رحمته، فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.
الرابع: إثبات ملكه، فإن ملكا لا يعرف أحدا من رعيته ألبتة ولا شيئا من أحوال مملكته ألبتة، ليس بملك بوجه من الوجوه.
الخامس: كونه مستعانا.
السادس: كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه.
السابع: كونه هاديا.
الثامن: كونه منعما.
التاسع: كونه غضبانا على من خالفه.
العاشر: كونه مجازيا يدين الناس بأعماله يوم الدين.
3فنفي علمه بالجزئيات مبطل لذلك كله” .

شبهة والرد عليها:
وردت في القرآن الكريم مجموعة من الآيات ظاهرها أن الله تعالى يحصل له العلم الذي لم يكن لديه:
من ذلك قوله تعالى: “وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ” (البقرة:143)، وقوله جل ذكره: “وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” (العنكبوت:3)، وقوله تقدست أسماؤه: “إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ” (سبأ:21)، وقوله جل وعز: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ” (محمد:31).
والجواب واضح، فالمراد في هذه الآيات وأمثالها، ظهور علم الله تعالى في الواقع، علم يرتبط به الجزاء، فإن الله تعالى لا يختبر ولا يبتلي ليزداد علما أو يحصل له علم لم يكن له -تعالى الله عن ذلك-.
يقول العلامة محمد أمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه القيم “دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب”: “قوله تعالى في هذه الآية: “إِلَّا لِنَعْلَمَ”؛ يوهم أنه لم يكن عالما بمن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، مع أنه تعالى عالم بكل شيء قبل وقوعه، فهو يعلم ما سيعمله الخلق، كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى: “هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى” (النجم:32)، وقوله تعالى: “وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ” (المؤمنون:63)؛ والجواب عن هذا أن معنى قوله: “إِلَّا لِنَعْلَمَ”؛ أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب، فلا ينافي كونه عالما به قبل وقوعه، وقد أشار تعالى إلى أنه لا يستفيد بالاختبار علما جديدا لأنه عالم بما سيكون حيث قال تعالى: “وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ” (آل عمران:154)، فقوله: “وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ”، بعد قوله: “وَلِيَبْتَلِيَ”: دليل على أنه لا يفيده الاختبار علما لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك، بل هو تعالى عالم بكل ما سيعمله 4 خلقه وعالم بكل شيء قبل وقوعه، كما لا خلاف فيه بين المسلمين، “لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ” (سبأ:3)”5 .
——————-
1- وقد سبق ذكر جملة منها، كما سيأتي ذكر أدلة أخرى.
2- الفتح، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعال: “عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً”.
3- مدارج السالكين من منازل “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”، (1/64)، مكتبة الصفا.
4- في أصل الكتاب “سيعلمه” ولعله خطأ مطبعي.
5- “دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب”، (ص:21).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *