أهل السنة نقاوة هذه الأمة، أصحاب البصائر المفتوحة، والفطر السليمة الممدوحة، لا يحتجون بالقضاء والقدر على ما صدر منهم من الذنوب والآثام، لعلمهم أن المرء مسؤول عما اقترفته يداه، وزينته له نفسه، وأغراه به شيطانه.
أما إن أصابه مكروه، ونزل به ما لا يسر، حمد الله واسترجع، وصبر واحتسب، وعلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء عنده بمقدار، وأن المؤمن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس هذا إلا للمؤمن.
أما أصحاب الفطر المطموسة والأفهام المعكوسة من أهل الأهواء، فإنهم يبررون خذلانهم، وينسبون عجزهم وعصيانهم وسوء أعمالهم إلى القضاء والقدر، فهم جبرية عندما يطالبون بأداء الواجبات والكف عن المحرمات، قدرية فيما تهواه أنفسهم من تحقيق الشهوات والانغماس في اللذات، قدوتهم وأسوتهم في ذلك المشركون الأوائل القائلون: “لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ” الأنعام.
لهذا قرر أهل السنة هذه القاعدة العظيمة، وفرقوا في الاحتجاج بالقضاء والقدر بين المعائب والمصائب، قائلين: “لا يحتج بإرادة الله وقدره على المعائب ولكن يحتج بهما على المصائب”، إذ المعايب من تصرفنا، والمصائب بتقدير ربنا وحده، “فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ” البقرة.
لهذا السبب لم يحتج أبوانا آدم وحواء بالقدر على أكلهما من الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها ربهما، ولكن اعترفا بظلمهما لأنفسهما، وطلبا المغفرة من ربهما، فغفر لهما: “وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ، قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ” الأعراف.
ولكن عندما نزلت بهما المصيبة وأهبطا إلى الأرض احتج آدم بقضاء الله وقدره، ورضي بما قسمه الله، لعلمه أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء عنده بقدر.
صح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “احتج آدمُ وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم: أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده، تلومني على أمر قد قدره الله عليَّ قبل أن يخلقنا بأربعين سنة؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدمُ موسى”، أي غلب آدم موسى عليهما السلام.
فلله در عمر وما أعمق فقهه وأسرع فهمه، عندما أبى أن يدخل في الطاعون وقرر الرجوع بمن معه من المسلمين، فقال له أبو عبيدة: أتفر من قدر الله؟! قال راداً عليه: “ليت غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أفرأيتَ إن كان لك وادياً له عدوتان، أحدهما مخضرة والأخرى مجدبة، إن رعيت المخضرة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت المجدبة رعيتها بقدر الله”، أوكما قال.
وكذلك عندما جيء برجل شرب الخمر، فقال له: لِمَ شربت الخمر؟! قال محتجاً بالقدر على شربه الخمر: شربتها بقضاء الله، فقال له عمر: نحن نقيم عليك الحد بقضاء الله وقدره؛ إذ ما من شيء خارج عن قضاء الله.
عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة”، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: “اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فييسر لعمل أهل الشقاوة”، ثم قرأ: “فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى.. الآيات”. (متفق عليه).
لكن السنة أن ينسب المرء الأعمال السيئة إلى نفسه وإلى الشيطان، مع أن الله خالق الإنسان وعمله: “وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ” الصافات.
فقد صح عن ابن مسعود أنه سئل عن مسألة فجلس يستخير الله شهراً، ثم أجاب السائل مذيلاً له بقوله: “إن أصبتُ فمن الله وله وحده الحمد والمنة، وإن أخطأتُ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من ذلك”.
أخي الحبيب “احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان” مسلم.
واحذر الطريقة الإبليسية وما نتج عنها من الطريقتين الجبرية والقدرية، المخالفتين لما تركنا عليه سيد البرية.