هذان نموذجان يظهران هذه السنة الكونية -سنة الابتلاء- التي تدل على عظم حكمة الله تعالى في تقديره وخلقه:
– الأول يتعلق بمعركة أحد، وقد اخترتها كنموذج لكونها مدرسة كبيرة من مدارس الحكمة حوت من الدروس والعبر ما يجعل العبد يوقن تمام اليقين بأن المتصرف في هذا الكون رب حكيم يعجز اللسان والبنان عن وصف حكمته سبحانه.
– والثاني يرتبط بما يجري الآن بسوريا من أرض الشام المباركة على يد الحزب النصيري الباطني الكافر.
وقد أردت من خلال هذين المثالين ربط الماضي بالحاضر، ولنعلم أن الذي أجرى تلك المعركة الكبرى بأحد على حسب ما تقتضيه حكمته سبحانه، هو الذي له الحكمة البالغة كذلك في ما يحدث بأرض سوريا المكلومة، وأنه سبحانه لا يجري شيء في كونه و ملكه إلا بمشيئته التابعة لعظيم حكمته، و”وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ”..
1- من حكم الله تعالى في معركة أحد:
هذه جملة من حكم الله تعالى في هذه المعركة اقتطفتها من زاد المعاد للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فقد بسط القول فيها بسطا لولا خشية الإطالة لنقلته بتمامه، فمن هذه الحكم:
1- تعريفهم -أي الصحابة وكل المسلمين من بعدهم- سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك.
2- أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المؤمنون وغيرهم ولم يتميز الصادق من غيره.
3- أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب.. قال تعالى: “مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ” (آل عمران 179). أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، كما ميزهم بالمحنة يوم أحد، وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا فيقع معلومه الذي هو عين شهادة.
4- 1استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون .
5- أنه سبحانه لو نصرهم دائما وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم، لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت.. فلا يصلح لعباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء.. فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
6- أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار.. فهو سبحانه إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولا، ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره.
7- أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة.
8- أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته، قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه.
9- أن الشهادة من أعلى مراتب أوليائه.. وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في محبته ومرضاته.
10- أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانه 2مومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم .
—————————–
1 – يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيرها: “أي لا بد أن يعقد شيئا من المحنة يظهر فيه وليه ويفتضح به عدوه، ويعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر”.
2- زاد المعاد، فصل في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، ص:98-101، من المجلد الثاني.