آية عظيمة من آيات القرآن الكريم، يغفل عنها الناس، مع أنها بمثابة إنذار لهم، ليصححوا المسار، ويسلكوا سبيل الرشاد. فبعد أن أخبرنا سبحانه عن أقوام تنكبوا طريق الحق والهداية، وأعرضوا عن هدي رب الأرض والسماء، وسلكوا سبل الغواية والضلال، فضلوا عن سواء السبيل، وتقطعت بهم الأسباب، يقول سبحانه: {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين} (الذاريات:50) خطاب من رب الأرباب يبين فيه لعباده الوِجْهة التي عليهم أن يشدوا الرحال إليها، والملجأ الذي يلجؤون إليه؛ إذ {لا ملجأ من الله إلا إليه} (التوبة:118).
وقد جادت قرائح السلف وأهل التفسير في المراد ممن يكون الفرار منه، بعد أن بينت الآية لنا إلى أن يكون المفر؛ فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (فروا إلى الله) بالتوبة من ذنوبكم. وعنه أيضاً: فروا منه إليه، واعملوا بطاعته. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله، فمن فرَّ إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل، ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر.
وقال الطبري في المراد مما نحن بصدده: “فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته”.
وقال ابن عطية عند تفسيره لقوله سبحانه: {ففروا إلى الله} قال: “أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله، وجعل الأمر بذلك بلفظ (الفرار) لينبه على أن وراء الناس عقاباً وعذاباً وأمراً حقه أن يُفَرَّ منه، فجمعت لفظة (فروا) بين التحذير والاستدعاء، ونحو هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) رواه أصحاب السنن.
وقال النسفي في المراد من الآية: {ففروا} “أي: من الشرك إلى الإيمان بالله، أو من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، أو مما سواه إليه”. وقال ابن كثير: {ففروا} “أي: الجئوا إليه، واعتمدوا في أموركم عليه”.
والرأي عند ابن عاشور أن الخطاب في الآية للمشركين، وأن الأنسب بالسياق أن الفرار إلى الله مستعار للإقلاع عن ما فيه المشركون من الإشراك، وجحود البعث، وهو استعارة تمثيلية بتشبيه حال تورطهم في الضلالة بحال من هو في مكان مخوف، يدعو حاله أن يفر منه إلى من يجيره، وتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال نذير قوم بأن ديارهم عرضة لغزو العدو، فاستعمل المركب وهو {ففروا إلى الله} في هذا التمثيل. فالمواجَه بـ {ففروا إلى الله} المشركون؛ لأن المؤمنين قد فروا إلى الله من الشرك”.
ومع وجاهة ما ذهب إليه ابن عاشور، وقوة استدلاله، فالآية تبقى على عمومها، والخطاب يشمل المؤمن وغير المؤمن، فالمؤمن مخاطب بالثبات على الإيمان، والاعتماد على الله في أمره كله، وغير المؤمن مطالب بالعودة إلى الله، والتسليم بما جاء به أمراً ونهياً.
وقد نقل القاسمي عن الشهاب الخفاجي قوله: “الأمر بالفرار من العقاب، المراد به الأمر بالإيمان والطاعة؛ لأنه لأمنه من العقاب بالطاعة، كأنه فر لمأمنه، فهو استعارة تمثيلية”.
على أن قوله سبحانه: {ففروا} -كما قال الرازي- ينبئ عن سرعة الإهلاك، كأنه يقول: الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع، فافزعوا إلى الله سريعاً، وفروا إليه.
وقوله تعالى: {إلى الله} بيان المهروب إليه، قال الرازي: “ولم يذكر الذي منه الهرب لأحد وجهين؛ إما لكونه معلوماً، وهو هول العذاب، أو الشيطان، الذي قال فيه: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} (فاطر:6) وإما ليكون عامًّا، كأنه يقول: كل ما عدا الله عدوكم، ففروا إليه من كل ما عداه؛ وبيانه أن كل ما عداه سبحانه، فإنه يتلف عليك رأس مالك، الذي هو العمر، ويفوت عليك ما هو الحق والخير، ومتلف رأس المال ومفوت الكمال عدو، وأما إذا فررت إلى الله، وأقبلت عليه فهو يأخذ عمرك، ولكن يرفع أمرك، ويعطيك بقاء لا فناء معه”.
وقوله تعالى في ختام الآية: {إني لكم منه نذير مبين} أي أنذركم عقابه، وأخوفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم، الذين قص عليكم قصصهم، والذي هو مذيقهم في الآخرة. قال أهل التفسير: وفي قوله سبحانه: {إني لكم منه نذير مبين} تعليل للأمر بالفرار، أي: أسرعوا إلى طاعة الله تعالى، إني لكم من عقابه المعد لمن يصر على معصيته نذير بيِّنُ الإنذار. قال ابن عاشور: “وجملة {إني لكم منه نذير مبين} تعليل للأمر بـ {ففروا إلى الله} باعتبار أن الغاية من الإنذار قصد السلامة من العقاب، فصار الإنذار بهذا الاعتبار تعليلاً للأمر بالفرار إلى الله، أي التوجه إليه وحده”.
ومحصل القول في المراد من الآية الكريمة: أن على العباد التوجه إلى الله وحده، والالتجاء إليه، والتوكل عليه، وإسناد الأمر كله إليه، والتزام طاعته، وترك معصيته، ففي ذلك كله النجاة في الدنيا، والفلاح في الآخرة.