الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ مَعَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى؛ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ) (أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الألباني في الإرواء 2017).
تأملات في الدُّرّة:
في هذه الدرّة يخبرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الحال التي يُبعث عليها من كانت له زوجتان لا يعدل بينهما، وهي أنّ الله يبعثه وأحدُ جنبيه ساقطٌ، أي: مُصَابٌ بالشَّلَل.
وَمَضَاتُ الدُّرّة:
في هذه الدرّة من الفوائد:
1. أنّ الذي لا يعدل بين زوجتيه، ويميل إلى إحداهما، يحشره الله يوم القيامة مائل الشقّ، والجزاء من جنس العمل.
2. أنّ الناس يحشرون في عرصات القيامة -قبل الفصل بين العباد- على حسب أحوالهم في الدنيا، فآكل الربا الذي كان يخبط في ماله خبط عشواء، ولا يبالي من أين اكتسبه، يحشر يوم القيامة كالذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، ومانع الزكاة يعذّب بما كان يمنعه من ذهب أو فضة أو أنعام حتى يقضي الله بين العباد، والذي أعرض عن آيات الله، ونسيها، وعَمِيَ عنها؛ فإنه يُحشر يوم القيامة أعمى، “قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى” (طه 125-126)، والغادر يُنصب له لواءٌ عند دبره كتب فيه (هذه غدرة فلان بن فلان)، ومن سَمّع وَراءى بعمله (قصد الرياء والسمعة) سمَّع الله به وراءى يوم القيامة (أي: فضحه)، وكذلك الذي يميل إلى إحدى زوجتيه يحشر في ذلك اليوم مائل الشقّ، نسأل الله أن يسترنا يوم العرض عليه.
3. وجوب العدل بين الزوجات في القسم والنفقة، وأمّا المحبّة القلبيّة فممّا لا يملكه العبد، ومما لا سلطان له عليه. ففي وجوب العدل بين النساء يقول الله تعالى: “فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا” (النساء:3)، أي: أن لا تجوروا وتظلموا، وفي العفو عن المحبة القلبية يقول الله تعالى: “وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا” (النساء:129)، قال أهل التفسير: لن تطيقوا أن تسوّوا بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع… وَلَوْ حَرَصْتُمْ على ذلك، فَلا تَمِيلُوا إِلى التي تحبون في النفقة والقسم… فتذروا الأخرى كالمعلقة… لا هي أيِّم (غير ذات زوج)، ولا ذات بعل (ذات زوج)… وَإِنْ تُصْلِحُوا أي: بالعدل في القسمة، وَتَتَّقُوا الجور، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لميل القلوب (زاد المسير بتصرف يسير).
4. وجوب العدل والقسط بين الرعية، وفي ذلك يقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ” (النحل:90)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم” (متفق عليه)، ويقول: “إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا” (رواه مسلم)، ويقول صلى الله عليه وسلم: “وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا” (متفق عليه).
5. مشروعية تعدد الزوجات بشرط العدل بينهن في القسمة والنفقة، وفي ذلك يقول تعالى: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ” (النساء:3)، وقد شرع تعدّد الزوجات في الإسلام بشروطه؛ لمقاصد عظيمة، منها: تقوية الأواصر الاجتماعية بالمصاهرة، والحدّ من الفاحشة التي من أسبابها قوّة الرغبة الجنسية لدى الرجل أو المرأة، ومعالجة ظاهرة العنوسة، وتكثير النسل والذرية… ولم يُشرع تعدّد الزوجات استجابةً لشهوةٍ جنسيةٍ عابرة على حساب حفظ حقوق الزوجة والأبناء، فإن عدم التقيد بشروط التعدد وواجباته تنتج عنه نتائج مناقضة لمقاصد الشريعة من تفكك أسري واجتماعي، وتلاعب ببنات المسلمين وأعراضهم، وضياع للأبناء، وانتشار للفاحشة بسبب كثرة المطلقات، وفشو للجريمة والرذيلة بسبب انحراف أبناء وبنات لم تُتَح لهم فرصةُ العيش في أحضان أب مشفق رحيم، ولم يشعروا يوما بدفء الأبوة وأمانها في ظل أسرة تَشُدّ نسيجها خيوط المحبة والمودة.
ألم ينتبه هذا الزوج وأمثاله من الذين فقدوا الشعور بالمسؤولية أنهم بصنيعهم هذا يصدون عن سبيل الله، ويفتحون الأبواب على مصاريعها أمام أعداء الإسلام لينالوا منه، وينفروا عنه من يريده؟!
فليحذروا الدخول في قوله تعالى: “وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (النحل:94)، قال ابن كثير: “اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا أَيْ خَدِيعَةً وَمَكْرًا، لِئَلَّا تَزل قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا: مَثَلٌ لِمَنْ كَانَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فَحَادَ عَنْهَا وَزَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، بِسَبَبِ الْأَيْمَانِ الْحَانِثَةِ، الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا رَأَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ عَاهَدَهُ ثُمَّ غَدَرَ بِهِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ وُثُوقٌ بِالدِّينِ، فَانْصَدَّ بِسَبَبِهِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}”، وكذلك الكافر أو المسلم الذي يبحث عن الاستقامة إذا رأى ممن ينتسب إلى الإسلام والسنة إضاعة للحقوق، وقسوة في القلوب، انصد ّبسبب ذلك عن الإسلام والسنة، وتحمل وزر صده عن سبيل الله هذا الزوج الذي لم يعط صورة مشرقة عن دينه.
فتجد أحدهم مع فقره وحاجته يبحث عن زوجة ثانية ليطلق بعد ذلك الأولى بولد في حضنها، وآخر في بطنها لأسباب صبيانية، وآخر يتزوج الثانية ثم يهجرها سنة كاملة لتتحمل هي وأهلها تسديد واجب الكراء، وثالث له زوجتان ويبحث عن الثالثة بعدما طلق رابعة وخامسة بسبب انتهاء مدة الصلاحية…
إن زوجات وأبناء هذا النوع من الأزواج هم في الواقع ضحايا لوحوش بشرية لا همّ لها إلا قضاء نزواتها الحيوانيّة البهيميّة، من غير أن يشعر الواحد منهم يومًا أن هذه المرأة التي عَدَّدَ بها أو عليها إنسانٌ كان يبحث عن شريك حياة يجد عنده الأنس، والمودة، والرحمة، والإشباع العاطفي والجنسي، ومن غير أن يشعر يوما أنّ أبناءه بضعة منه يحتاجون منه إلى عطف وحنان أبوي، وتربية وتعليم، ورعاية مادية ومعنوية… ألا يظن هؤلاء (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين)، لست أجد ما أعظ به هذا الصنف من البشر أبلغ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ” (متفق عليه).