“إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة” من آثار أسماء الله تعالى العليم، عالم الغيب وعلام الغيوب الحلقة الثالثة والخمسون ناصر عبد الغفور (مراتب القدر)

4- العلم مرتبة من مراتب القدر:
من أركان الإيمان الستة التي لا يصح إيمان عبد إلا بها: الإيمان بالقدر خيره وشره كما جاء في حديث جبريل عليه السلام، والإيمان بالقدر لا يتم إلا بالإيمان بأربعة أمور اعتبرها العلماء مراتب القدر:
أ- العلم: فعلى العبد أن يعتقد اعتقادا جازما أن الله تعالى متصف بالعلم الكامل، لا يغيب عنه شيء كما قال سبحانه: “وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ” (الأنعام:59)، وأنه سبحانه: “يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا..” (سبأ:2)، “فهو سبحانه علم بكل شيء، جملة وتفصيلا، أزلا وأبدا، سواء كان ذلك يتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده” 1.
ب- الكتابة: فيجب أن نعتقد أن الله تعالى كتب مقادير الخلائق كلها في اللوح المحفوظ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أول ما خلق الله القلم 2، فقال: اكتب، قال: رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة” (صحيح الجامع:2018). وفي رواية: “إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب ، قال: ما أكتب، قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد” (ص ج:2017)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: “إن أول شيء خلقه الله القلم، فأمره فكتب كل شيء يكون” (ص ج:2016).3
يقول شيخ الإسلام في هاتين المرتبتين: “وقد علم ما سيكون قبل أن يكون وقدر المقادير وكتبها حيث يشاء، كما قال تعالى: “أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” (الحج:7)، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء” (مسلم، ح:2653)” 4.
ج- المشيئة: فنؤمن بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن مشيئته سبحانه “عامة في كل شيء، فما وجد موجود ولا عدم معدوم من صغير وكبير وظاهر وباطن في السموات والأرض إلا بمشيئة الله عز وجل، سواء كان ذلك من فعله تعالى أم من فعل مخلوقاته” .
د- الخلق: فنؤمن أن الله تعالى خلق كل شيء كما قال عز من قائل: “الله خالق كل شيء” (الزمر:62)، وقال تعالى: “وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً” (الفرقان:2).
والمنكرون للمرتبتين الأوليتين وهم الغلاة انقرضوا ولم تبق لهم باقية، لكن لا زال من يتكلم في المشيئة والخلق ويستثني أفعال العباد منهما -وهؤلاء هم القدرية المتوسطون- زاعمين أنهم يفعلونها بمشيئتهم المستقلة عن مشيئة الله تعالى، وأنها غير مخلوقة له سبحانه، ويظنون أن القول بخلاف ذلك وصف لله بالظلم، لأنه إن كان خالقا لمعاصي العبد مريدا لها ثم عذبه على اقترافها فذلك عين الظلم وهو سبحانه منزه عن الظلم كما أنه يلزم من ذلك كونه سبحانه مجبرا لعباده، وهذا إنما مرده سقم في الفهم، وإلا فإن الله تعالى هو الذي خلق قدرة العبد على الفعل وخلق إرادته، وبهذين الأمرين يتم الفعل وخالق السبب خالق المسبب، قال تعالى: “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ” (الصافات:96).
يقول العلامة السعدي رحمه الله: “فهو تعالى يعلمها -أي أفعال العباد- إجمالا وتفصيلا قبل أن يعلموها5 ، وأعمالهم وأفعالهم داخلة تحت مشيئة الله وإرادته: فقد شاءها منهم وأرادها، ولم يجبرهم لا على الطاعات ولا على المعاصي، بل هم الذين فعلوها باختيارهم، كما قال تعالى: “لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (التكوير:28-28)، فهذه الآية فيها رد على القدرية النفاة وعلى القدرية المجبرة، وإثبات للحق الذي عليه أهل السنة والجماعة..” 6.
فمن أراد النجاة فليؤمن بالقدر حق الإيمان ويعظم ربه ولا يسيء الظن به وليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الله تعالى بين له السبيل وهداه النجدين وأعطاه القدرة والاختيار، فلا يختار طريق الشر ويحتج بالقدر فإن الله تعالى قد رد على المحتجين بالقدر وأفحمهم وبين ضلالهم وفساد شبهتهم فقال تعالى: “سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ، قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ” (الأنعام:148-149) 7.
—————————-
1- شرح الأصول الثلاث للشيخ ابن العثيمين رحمه الله تعالى.
2- اختلف العلماء في أول مخلوق على قولين، كما قال الإمام ابن القيم في نونيته:
والناس مختلفون في القلم الذي … كتب القضاء به من الديـــــان
هل كان قبل العرش أو هو بعده … قولان عند أبي العلا الهمداني
والأكثر على سبق العرش كما ذكر ابن حجر عن هذا الأخير (أي الهمداني)، واختار ابن جرير ومن تبعه القلم، وذهب ابن القيم إلى ترجيح العرش حيث قال: والحق أن العرش قبل لأنه … قبل الكتابة كان ذا أركــــان
وكتابة القلم الشريف تعقبت … إيجاده من غير فصل زمان (النونية، ص:58، دار الآثار).
ولكل من الفرقين أدلته، والعلم عند الله تعالى.
3- التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع.
4- تقريب التدمرية للشيخ ابن العثيمين، (ص:81، دار الآثار).
5- هكذا بهذا اللفظ، ولعل الصواب: يعملوها، والله أعلم.
6- شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية المسماة “بالدرة البهية”، وهي من نظم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (ص:14، دار الشريعة).
وقد أتى شيخ الإسلام في هذا النظم -كما يقول العلامة السعدي في تقديمه لشرحه-: “بالعجب العجاب وبين الحق الصريح وكشف الشكوك والشبهات التي طالما خالطت قلوب أذكياء العلماء وحيرت كثيرا من أهل العلم الفضلاء”.
7- قد يقول قائل لماذا هذا الكلام عن القدر ونحن مع اسم العليم، والجواب واضح فإن العلم أول مراتب القدر، كما أن الأمر جد جلل، فقد زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام، ويحتاج إلى دوام البيان لإزالة ما قد يلقيه الشيطان في قلوب بعض الأنام.
يقول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى -في عقيدته-: “فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما وأحضر للنظر فيه فهما سقيما، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *