من فقه البيوع أحكام المال الحرام [حكم الانتفاع بالمال الحرام] (الحلقة: الحادية عشرة)

إذا حاز المسلم مالا حراما فإنه لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون قد أخذ هذا المال من صاحبه بغير رضاه كما لو سرقه منه أو غصبه، أو أخذه منه من غير أن يوفيه عوضه، فسبيل هذا المال أن يرد إلى مالكه، فإن تعذر ردّه قضى به دينا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك، ردّه إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به 1عنه وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن هذا ثابت عن الصحابة رضي الله عنهم .
الحال الثانية: أن يكون قد حاز هذا المال المحرم بعقد باطل، كما لو كان محل العقد عين محرمة كالخمر والخنزير وما أشبه ذلك، أو كان محله منفعة محرمة كمن أجر بيته ليكون دارا للبغاء، أو أجر نفسه ليحمل خمرا أو نحو ذلك. فسبيل هذا المال أن يتخلص منه بصرفه لمن يستحقه من الفقراء والمساكين، ويكون صرفه إليهم بنية التخلص من هذا الكسب الخبيث لا بنية الصدقة، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
فإذا قدر أن الذي حاز هذا المال شخص فقير فهل يحل له أن ينتفع بهذا المال بإنفاقه على نفسه وعياله أم ليس له ذلك؟
الذي عليه جمهور الفقهاء 2 أنه يجوز للمسلم إذا كان فقيرا أن ينفق على نفسه وعياله من هذا المال بقدر حاجته. وهذا ما لم يعرف لهذا المال مالكا يرده إليه.
قال ابن رشد رحمه الله:
“ولا يرثه -أي المال الحرام- عنه ورثته ولا تجوز فيه وصاياه لأن التباعات هي أحق بماله من ورثته ومن أهل وصاياه لأنها ديون عليه، ولا ميراث لأحد إلا بعد أداء الدين لقول الله تعالى: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)، فإن جهل أهل التباعات ويئس من معرفتهم تصدق بالمال عنهم فإن كان 3الورثة فقراء ساغ لهم أن يأخذوه على سبيل الصدقة عن أهل التباعات لا على سبيل الميراث عن مورثهم، وهذا هو القول الصحيح من الأقوال” .
* ونقل النووي في المجموع عن الغزالي قوله: “وإذا دفعه -أي المال الحرام- إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير، بل يكون حلالا طيبا وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا، لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ قدر حاجته لأنه أيضا فقير”.
قال النووي معلقا على هذا القول: “وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، ونقله الغزالي أيضا عن معاوية 3بن أبي سفيان وغيره من السلف” .
* قال العلامة ابن القيم رحمه الله في سياق كلامه عن حكم العوض المحرم: “فطريق التخلص منه، وتمام التوبة بالصدقة به، فإن كان محتاجا إليه، فله 4أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي” .
مسألة: تبين مما سبق أن من كان غنيا وحاز مالا حراما لم يحل له أن ينتفع به ويصرفه في حاجة نفسه، فما الحكم إذا فعل ذلك؟
الجواب: إذا فعل ذلك كان ما أنفقه دينا في ذمته يلزمه سداده، وذلك بأن يتصدق بمثله. كما نص على ذلك ابن مودود من الحنفية6 .
وبالله التوفيق
——————-
1- زاد المعاد (5/690).
2- أنظر أحكام المال الحرام لعباس الباز (ص284).
3- فتاوى ابن رشد (1/642).
4- المجموع شرح المهذب للنووي (9/428).
5- زاد المعاد (5/691).
6- الاختيار لتعليل المختار لابن مودود (3/61).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *