الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ : ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ”. أخرجه مسلم.
تأملات في الدُّرّة:
في هذه الدرة النبوية حثنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم على الإحسان في كل شيء، ثم خصّ بعد أن عمّ، فأمر بالإحسان في قتل ما يشرع قتله، وفي ذبح ما يشرع ذبحه، ثم أرشد إلى ما يعين على إحسان الذبح، وهو تحديد الآلة؛ وأرفق ذلك ببيان علّة ذلك والغاية منه، وهي: إراحة الذبيحة.
وَمَضَاتُ الدُّرّة:
في هذه الدرة من الفوائد ما يلي:
1- الحث على الإحسان في كل شيء، وهذا يعمّ أمور الدين والدنيا، وأصل الإحسان هو ما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (مسلم)، ولا شك أن مراقبة الله في جميع الأحوال تدعو إلى إتقان العمل والإتيان به على أكمل وجه، سواء كان هذا العمل من العبادات أو العادات، وذلك تقربا إلى الله تعالى بما يحب؛ امتثالا لحديث: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه” (الصحيحة 1113).
2- محبة الله تعالى للإحسان والمحسنين كما يدل على ذلك صريح قوله تعالى: “وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (البقرة195)، ولهذا وعدهم على إحسانهم خيرا في الدنيا والآخرة، فقال: “لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ” (النحل30)، وزادهم على ذلك زيادة، فقال: “لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ” (يونس26)، ويكفي دلالة على محبته تعالى للإحسان اتصافه بهذه الصفة على وجه الكمال، كما قال عن نفسه “الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ” (السجدة7)، وقال عنه نبيه يوسف صلى الله عليه وسلم: “وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ” (يوسف 100)، وفي بديع صُنعه وخلقه ما يدل على كمال إحسانه.
3- حسن شريعة الإسلام وكمالها، حيث إنها أمرت بالإحسان في كل شيء، حتى في القتل، الذي هو أبلغ أذًى يمكن إلحاقه بمن يُراد به سوءٌ. فإذا كنا مأمورين بالإحسان في قتل الحية والعقرب، بل وفي قتال الكفار وألد الأعداء، فما بالك بغيرهم.
4- الإسلام دين الرفق بالحيوان، حيث إنه أمر بإحسان الذبح، وإحداد الشفرة، والرفق هو الأصل في معاملة جميع الخلق، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» (متفق عليه).
5- في تعليل الحكم بقوله صلى الله عليه وسلم : “فليرح ذبيحته” إرشاد إلى كل ما من شأنه التخفيف عن الحيوان وإراحته، ومن ذلك: عدم إحداد الشفرة أمامها، وسرعة إمرار السكين، وأن لا تذبح وتسلخ بحضرة غيرها، فإن هذه البهائم أمم أمثالنا، قال تعالى: “وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ” (الأنعام38).
6- جمال دين الإسلام وبراءته من أوصاف الذم والقدح التي يلصقها به أعداؤه بقصد التنفير منه، فلنجتهد في بيان جمال هذا الدين ترغيبا للخلق في الإقبال عليه.
7- الإسلام دين الرحمة بجميع الخلق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (صحيح الجامع 3522)، وفي المقابل قال صلى الله عليه وسلم : “من لا يرحم لا يرحم” (متفق عليه)، فلنتق الله في معاملة هذه البهائم التي سخر الله لنا، لعل الله يرحمنا عند نزع أرواحنا، وليعلم كل واحد منا أن له ساعة أحوج ما يكون فيها إلى رحمة الله، فليدخر لساعته رحمةً بالخلق لعلَّ رحمةَ الله تدركه.