مناقشة حكم جواز استمرار الصائم في الأكل والشرب بعد أذان الفجر!! الدكتور يوسف مازي عضو المجلس العلمي المحلي ببني ملال

مما عمت به البلوى اليوم بين طلبة العلم وانتقلت عدواه إلى العوام فتوى مفادها جواز الاستمرار في الأكل والشرب بعد أذان الفجر، بدعوى أن الأذان في بلدنا يكون قبل الفجر الصادق… وقد سئلت في أكثر من مناسبة هذا السؤال، بل دعيت للتحكيم في هذه المسألة في نوادي مختلفة. وحتى نتبين فيها أحببت أبين بعض ما يتعلق بها بالقول:
إن معتمد أرباب هذا القول حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه). وفي رواية: (وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر). رواه أبو داود وغيره وروى الحاكم أبو عبد الله الرواية الأولى وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. والحديث حسنه الألباني في الصحيحة وصحح إسناده في تمام المنة.
ورواهما البيهقى ثم قال: “وهذا إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه -صلى الله عليه وسلم- علم أن المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر” السنن الكبرى 4/218.
وقال النووي: وقوله (إذا بزغ) يحتمل أن يكون من كلام من دون أبي هريرة رضي الله عنه؛ أو يكون خبراً عن الأذان الثاني. ويكون قول النبي صلى الله عليه وسلم “إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده” خبراً عن النداء الأول ليكون موافقاً لحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنها (إن بلالاً يؤذن بليل..)، قال وعلى هذا تتفق الأخبار وبالله التوفيق والله أعلم.. (المجموع 6/311-312).
وقال النووي أيضا: ذكرنا أن من طلع الفجر وفي فيه -أي فمه- طعام فليلفظه ويتم صومه؛ فإن ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه، وهذا لا خلاف فيه ودليله حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنها السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل..).
وحمل جماعة من العلماء هذا الحديث على حال من شك في طلوع الفجر، أما إذا تأكد المتسحر من طلوع الفجر فليس له أن يأكل أو يشرب، فإن فعل بعد التأكد من طلوع الفجر فقد بطل صومه ويلزمه القضاء. ومعلوم أن الأذان الأول لا يدخل به وقت الفجر أما الأذان الثاني فيدخل به وقت الفجر ومن ثم فيحرم الطعام والشراب…
قال العلامة علي القاري في شرحه للحديث: ” قوله -صلى الله عليه وسلم-: (حتى يقضي حاجته منه) هذا إذا علم أو ظن عدم الطلوع”.
وقال ابن الملك: “هذا إذا لم يعلم طلوع الصبح أما إذا علم أنه قد طلع أو شك فيه فلا” مرقاة المفاتيح 4/483.
من خلال النقول السابقة يتبين لنا أن الحديث الأول (إذا سمع أحدكم..) لا يجيز بأي حال للصائم أن يستمر في الأكل والشرب خلال أذان الفجر إذا تأكد من طلوع الفجر الصادق وهو محمول على قوله صلى الله عليه وسلم من حديث: عائشة رضي الله عنها: (إنَّ بِلالا كان يؤَذِّنُ بليلٍ، فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كلوا واشربوا حتى يُؤَذِّنَ ابنُ أمَّ مكتومٍ فإنهُ لا يُؤَذِّنُ حتى يطْلُعَ الفجرُ). صحيح البخاري:1918.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن، أو قال حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم. وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى، لا يؤذن حتى يقول له الناس: أصبحتَ) صحيح البخاري :2656.
وبلفظ مسلم (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقي هذا) صحيح مسلم:109.
ومن تم يكون قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) ما لم يؤذن ابن أم مكتوم، فإن أذن ابن أم مكتوم فلا أكل ولا شرب. لأن الأذان الثاني يدخل به وقت الفجر ومن ثم فيحرم الطعام والشراب..
فالأولى أيها الصائم المتسحر بالسحر أن تمسك من حين أن يؤذن للفجر الثاني. والأولى الإمساك قبل الأذان بقليل إحتياطا وامتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). صحيح الجامع الرقم:3377.
ولو ما في هذا الرأي من خلاف الأولى في اصطحاب أصل بقاء الليل، ولقوله صلى الله عليه وسلم (الحلالُ بيِّنٌ، والحرامُ بيِّنٌ، وبينهما مُشَبَّهاتٌ لا يعلمُها كثيرٌ من الناسِ، فمَنِ اتقى المُشَبَّهاتِ استبرَأ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقَع في الشُّبُهاتِ: كَراعٍ يرعى حولَ الحِمى يوشِكُ أن يواقِعَه، ألا وإن لكلِّ ملكٍ حِمى، ألا وإن حِمى اللهِ في أرضِه مَحارِمُه، ألا وإن في الجسدِ مُضغَةً: إذا صلَحَتْ صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ) صحيح البخاري :52.
فالسنة أن يكون السحور وقت السحر أي قبيل طلوع الفجر بقليل كما قال تعالى {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} آل عمران. وكما في قوله سبحانه: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الذاريات .
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه “أنَّ نبيَّ اللهَ -صلى الله عليه وسلم- وزيدَ بنَ ثابتٍ تَسَحَّرا، فلمَّا فرغا من سُحورهما قام نبيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إلى الصلاةِ فصلَّى” . قلنا لأنسٍ: كم كان بينَ فراغِهِمَا من سُحورهما ودُخولهما في الصلاةِ؟ قال: كَقَدْرِ ما يقرأُ الرجلُ خمسينَ آيةً” صحيح البخاري:1134.
كما ينبغي أن نشير هنا أن أهل الحواضر يستحيل في حقهم تمييز الفجر الثاني من الأول للأضواء المنعكسة من المدن في اتجاه السماء، لهذا يكون الاتباع للتقويم الذي أعدته لجنة من أهل العلم الشرعي ومن مختصين في علم الفلك وممن لديهم خبرة ومعرفة في التوقيت. وإلا فأين قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل.
وقوله عز من قائل: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ، الرَّحْمَـٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} الفرقان.
فالأولى لاجتماع الكلمة وتوحيد الصف وتحقيق مقاصد الشرع أن يجتمع المسلمون على مثل هذا التقويم الذي لم يوضع عبثا.
ولمن يسأل عن علامات تميز الفجر الأول من الثاني أقول:
 إن الفجر الثاني يكون معترضا في الأفق، أي ممتدا من الشمال إلى الجنوب. في حين أن الفجر الأول يكون مستطيلا أي يمتد من المشرق إلى المغرب.
 إن الفجر الثاني لا ظلمة بعده، بل يستمر النور في ازدياد حتى طلوع الشمس. وأما الفجر الأول فيظلم بعد أن يكون له شعاع.
 إن الفجر الثاني متصل غيابه بالأفق. وأما الفجر الأول فبينه وبين الأفق ظلمة.
 إن الفجر الأول ليس له حكم في الشرع، عكس الفجر الثاني الذي يترتب عليه حكم الصلاة وحكم الطعام..
والله تعالى أعلم، ونسبة العلم إليه أسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *