ومن الحكم في إيراد الأسماء الخمسة -التي مرت معنا- في فاتحة القرآن الكريم اشتمال هذه الأسماء على أركان العبادة الثلاث: “المحبة والخوف والرجاء”:
فاسم “الرب” يدل على الركن الأعظم ألا وهو المحبة، وبيان ذلك أن هذه النعم الظاهرة والباطنة التي نتقلب فيها والتي قال تعالى عنها: “وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا” ، إنما هي من معاني ربوبيته جل وعلا.
وهذه النعم توجب حب المنعم، ولهذا كان من أحد الحكم في الإكثار من ذكر آيات الربوبية جعل القلوب مغمورة بحبه تعالى .
وهذا أمر فطري، فإن من أنعم عليك ببعض النعم فإنك تقع في حبه لزاما، فكيف بمن أسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، كيف بمن أوجدك من عدم وأمدك بسمع وبصر.. وسخر لك ما في السموات والأرض جميعا منه..؟ كيف بمن أرشدك وهداك وأخرجك من الظلمات إلى النور، وأنزل إليك كتابا وأرسل إليك رسولا دلك على سبيل الهدى والرشاد وحذرك من سبل الزيغ والردى ..؟ كيف لا تتفانى في حبه؟
وحب الله تعالى يقتضي لزاما توحيده، يقول الإمام ابن القيم: “والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب، وألا يشرك بينه وبين غيره في محبته..” .
والمحبة أسّ العبادة بل هي حقيقتها، وهذه المحبة -محبة العبادة أو ما يسميه العلماء بالمحبة الخاصة- هي التي توجب من التذلل والتعظيم ما يجعل العبد ممتثلا لأوامر ربّه منتهيا عن زواجره، وذلك عنوان المحبة الصادقة، كما قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
– واسمي الرحمن الرحيم يدلان على ركن الرجاء: الذي لا يمكن للعبد أن يسير إلى الله بدونه، فالوقوف على هذين الاسمين وتدبرهما حق التدبر يجعل القلب يمتلئ رجاء وطمعا في الله تعالى.
وكيف لا يعظم الرجاء فيمن وسعت رحمته كل شيء؟
كيف لا يعظم الرجاء فيمن جعل رحمته مائة جزء لم ينزل إلى الأرض إلا جزءا واحدا به يتراحم الخلائق؟
كيف لا يعظم الرجاء فيمن هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها؟ .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: “لو تعلمون قدر رحمة الله لاتكلتم عليها” (ص ج 5335). لكن كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ” مما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئا استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
أحدها: محبة ما يرجو، الثاني: خوفه من فواته، الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان. وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني.” .
– المالك – الملك – مالك يوم الدين: دلّ هذا الاسم على ركن الخوف، ومنزلته كما يقول ابن القيم في المدارج: “من أجلّ منازل الطريق وأنفعها للقلب وهي فرض على كل أحد”، وقال في موضع آخر: “الخوف علامة صحة الإيمان وترحله من القلب علامة ترحل الإيمان منه”.
وهذه الأمور: -المحبة والرجاء والخوف- التي دلت عليها هذه الأسماء تعتبر أركان العبادة الثلاثة، فالمحبة للعبد السائر إلى الله بمثابة الرأس للطائر والخوف والرجاء بمثابة الجناحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد..” .
4- ومن الحكم ما دلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: “الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: “الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ”، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: “مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ”، قال: مجدني عبدي..” الحديث .
والحمد كما يقول العلماء هو: “وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم” ، ويكون مقابل النعم ونعوت الجلال والكمال، فالله تعالى يحمد على نعمه التي لا تحصى -والتي هي من ربوبيته تعالى-، كما يحمد على أوصافه العلى وأسمائه الحسنى.
وكل حمد فهو لله، لذلك فكما يقول العلماء الألف واللام في الحمد للاستغراق، وفي لفظ الجلالة للاستحقاق والاختصاص.
والمجد: التعظيم والثناء، قال في اللسان: أمجده ومجده كلاهما عظمه وأثنى عليه.. والله تعالى هو المجيد بفعاله ومجده خلقه لعظمته .
فالعبد بتلاوته لسورة الفاتحة وقراءته لهذه الأسماء المباركة يكون حامدا لربه مثنيا عليه ممجدا له جل وعلا، وذلك من أعظم العبادات.