من فقه البيوع النوع الثالث من البيوع المحرمة: بيوع الربا (الحلقة الثالثة عشرة) تحريم الحيل الربوية (حكم انتفاع المرتهن بالرهن) ياسين رخصي

شاع بين كثير من الناس التعامل بنوع من العقود، يشتمل على رهن وسلف وإيجار، يقصد منه المرتهن الانتفاع بالرهن بأجرة زهيدة لقاء ما أقرض، وهذا خروج عن مقصود الرهن، فإن عقد الرهن لا يقصد به إلا الاستيثاق وضمان الدين، وليس المقصود منه الاستثمار والربح، وإليك نسخة من هذه العقود:
(عقد سلف رهني)
بين المتعاقدين أسفله:
الطرف الأول: السيد: … (مدين) راهن من جهة.
والطرف الثاني: السيد: … (دائن) مرتهن من جهة أخرى.
وقع الاتفاق والتراضي على ما يأتي بيانه:
– الإشهاد بالرهن: يشهد الطرف الأول السيد: … أنه رهن للطرف الثاني السيد: … بقبوله ورضاه شقة بالطابق الأول كائنة بـ… موضوع الرسم العقاري…، تحتوي على صالون و…، وذلك لمدة سنة واحدة تبتدئ من 2008/10/07، وتنتهي في 2009/10/06.
– مبلغ القرض: إن مبلغ القرض المتفق عليه من قبل الطرفين هو ما قدره 45000 درهم، يشهد الراهن السيد: … أنه توصل به كليا من يد المرتهن السيد: …، وعند انتهاء الأجل المشار إليه أعلاه يلتزم الراهن المقترض بتسديد كافة مبلغ الدين المذكور لصاحبه المذكور أعلاه ويسترجع عقاره المذكور أعلاه…
– الواجب الشهري: اتفق الطرفان على واجب شهري قدره 700 درهم يؤديه المرتهن السيد: … للراهن السيد: … عند السابع من كل شهر دون قيد أو شرط…
حكم هذا العقد:
هذا العقد فيه ربا ظاهر لاشتماله على قرض جر نفعا، ومن القواعد المتقررة عند أهل العلم أن كل قرض جر نفعا فهو ربا، فإن صاحب القرض انتفع بسكنى الدار المرهونة بأجرة زهيدة بسبب قرضه.
وقد بحث أهل العلم حكم انتفاع المرتهن (وهو الدائن الذي يأخذ العين المرهونة للاستيثاق) بالرهن، وهل يجوز له ذلك أم لا يجوز؟
وهذه نبذة مختصرة تتعلق ببعض أحكام الرهن، ليعرف بها القارئ الكريم حكم هذه المسألة:
الرهن لغة:
الرهن في اللغة بمعنى الثبوت، تقول ماء راهن أي راكد ثابت، ونعمة راهنة أي ثابتة، ومن معانيه الحبس، قال تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) أي محتبس بعمله(1).
الرهن في الاصطلاح:
قال القرطبي رحمه الله: “احتباس العين وثيقة بالحق، ليُستوفى الحق من ثمنها، أو ثمن منافعها، عند تعذر أخذه من الغريم”(2).
أصل مشروعية الرهن:
هو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، وأجمع المسلمون على جوازه في الجملة.
حكم انتفاع المرتهن بالرهن:
لا يخلو من أن يكون انتفاع المرتهن بالرهن بإذن الراهن أو بغير إذنه.
حكم انتفاع المرتهن بالرهن بغير إذن الراهن:
إذا لم يأذن الراهن للمرتهن أن ينتفع بالرهن فلا يخلو الرهن من حالين:
الحال الأولى: أن يكون غير مركوب ولا محلوب.
الحال الثانيـة: أن يكون مركوبا أو محلوبا.
– فإن كان غير مركوب ولا محلوب كأن يكون ثوبا أو دارا أو كتابا أو نحو ذلك، فليس للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن عند جميع الفقهاء، قال في المغني: “لا نعلم في هذا خلافا”(3).
– وأما إن كان مركوبا أو محلوبا ولم يأذن الراهن للمرتهن أن ينتفع به فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: عدم الجواز، وهو مذهب الحنفية والشافعية والمالكية، والحنابلة في رواية.
القول الآخر: وهو للحنابلة في المشهور عنهم، وبه قال إسحاق ابن راهويه، ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريا العدل في ذلك، وهذا القول أصح لما روى البخاري(4) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الظهر(5) يُركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر(6) يُشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يَركب ويَشرب النفقة”.
وبيْن الفريقين مناقشات ومجادلات يضيق المقام عن بسطها، وقد دافع ابن القيم رحمه الله عن القول الثاني في إعلام الموقعين بكلام متين جيد، فليُراجَع.
حكم انتفاع المرتهن بالرهن بإذن الراهن:
اختلف العلماء في ذلك على أقوال وآراء مختلفة متباينة، لكنهم اتفقوا -إلا بعض الأحناف- على أن الرهن إن كان بدين سببه القرض، أنه لا يجوز حينئذ للمرتهن أن ينتفع بالرهن، لأنه يكون من القرض الذي جر نفعا وكل قرض جر نفعا فهو ربا.
وإن كان الرهن بثمن مبيع أو دين غير القرض فأذِن الراهن في الانتفاع، فاختلفوا على أقوال وتفاصيل لا يتسع المقام لذكرها.
ذكر بعض أقوال فقهاء المذاهب في هذه المسألة:
قال العبدري: قال مالك: “إذا اشترط المرتهن منفعة الرهن، فإن كان الدين من قرض لم يجز ذلك لأنه سلف جر منفعة”(7).
وقال عبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بداما أفندي من الحنفية: “إن من ارتهن شيئا لا يحل له أن ينتفع بشيء منه بوجه من الوجوه، وإن أذِن الراهن، لأنه إذن له في الربا”(8).
وقالت الشافعية: “إن كان الرهن بدين قرض فلا يجوز الانتفاع به مطلقا، سواء شُرِط الانتفاع في العقد أو بعده، وذلك لأن الانتفاع المشروط يكون ربا”(9).
وقال ابن قدامة من الحنابلة: “فإن أذِن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض لم يجز لأنه يحصل قرضا جر منفعة، وذلك حرام…”(10).
وبذلك يعلم حكم ذلك العقد المشار إليه في أول المقال، وأنه عقد ربوي اشتمل على قرض جر نفعا، ولا يعكر على ذلك أن المرتهن يدفع ثمن إيجار البيت المرهون، فإنه لما أقرضه أنقص له الراهن من ثمن الإيجار، وهذا نفع جره ذلك القرض.
وأيضا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يحل سلف وبيع”(11)، وقد نص أئمة المالكية(12) أنه يدخل في هذا الحكم سلف وإيجار، لأن الإيجار بيع منافع، فظهر بذلك أن هذا العقد (أعني عقد الرهن والسلف والإيجار) فاسد بهذا الاعتبار أيضا، لدخوله في معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع.
لذلك ينبغي على كل ناصح أن يَحْذر هذه العقود ويُحَذِّر منها نُصحا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- أنظر “المصباح المنير”، “القاموس المحيط”، “لسان العرب” (مادة رهن).7
(2)- “جامع الأحكام الفقهية” للإمام القرطبي، جمع: فريد عبد العزيز الجندي (2/51).
(3)- “المغني” (6/509).
(4)- “صحيح البخاري” (2512).
(5)- الظهر: المراد هنا ظهر الحيوان المعد للركوب من بعير وحصان وحمار وغيرها.
(6)- لبن الدر: تسمية له بالمصدر بمعنى الدَّارة أي ذات الضرع واللبن.
(7)- “التاج والإكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل” (5/177) (أنظر “حكم انتفاع المرتهن بالرهن” د: عبد الرحيم صالح يعقوب).
(8)- “مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر” (2/588).
(9)- أنظر “المجموع” (13/219-217).
(10)- “المغني” (6/510-509).
(11)- أخرجه أصحاب السنن الأربعة.
(12)- أنظر “حاشية الدسوقي” (3/76).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *