ما نهي عنه سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة

المنهيات في الشرعة تنقسم إلى قسمين اثنين: منها ما نهي عنه لمفسدة في نفسه كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير..، ومنها ما نهي عنه لأنه ذريعة إلى منهي عنه لذاته، كالبيع بعد النداء يوم الجمعة فقد نهي عنه لأنه يفضي إلى الاشتغال عن الصلاة.

والذريعة في عرف الفقهاء(1) هي: “عبارة عن كل أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع” الجامع لأحكام القرآن 2/57-58 للقرطبي رحمه الله.
وقاعدتنا في هذا الصدد تخص باب الذرائع حيث تنصُّ على أن النهي عنه للذريعة -لا لأنه مفسدة في نفسه- إذا كان في فعله مصلحة راجحة، فإن حرمته تهدر، ويباح عند الحاجة، بشرط أن تكون هذه المصلحة متحققة(2) لا تتم إلا بذلك فتنبه.
ويعبر عن هذا العلماء بقاعدة: “فتح الذرائع”، فإن من الذرائع ما لا يسد بل يفتح لما في فتحها من المصالح الراجحة(3) على المفسدة المتوقعة، وعليه فإذا تبين ذلك فلا مجال لإعمال قاعدة سد الذرائع، بحيث لو أعملت -عند ذلك- لأفضى الأمر إلى تفويت مصالح عظيمة، ووقع الناس معها في حرج عظيم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وما كان منهيا عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة في نفسه يشرع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولا تُفَوت المصلحة الراجحة لغير مفسدة راجحة(4)” الفتاوي 23/214، وانظر زاد المعاد 2/161.
ودليل هذه القاعدة الاستقراء(5) للمواطن التي ورد فيها نهي للذريعة، ومن ثم أبيح للمصلحة الراجحة، وقد أشار إلى هذا الإمام ابن القيم رحمه الله حيث قال: “ولما كان النظر من أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه، وإباحته في موضع الحاجة، وهذا شأن كل ما حرم تحريم الوسائل(6)، فإنه يباح للمصلحة الراجحة” روضة المحبين 95.
ومما يؤكد هذا أن علماء الأصول اعتبروا باب الذرائع قاعدة مآلية، أي: اعتبر فيها النظر إلى مآلات الأفعال. انظر الموافقات 4/198، و”الأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها” نفسه 3/259.
و”النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا” نفسه 4/194.
وقد دلت “الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية” نفسه 4/196.
ويمكن إيضاح قاعدة ما نهي عنه سدا للذريعة يباح لمصلحة الراجحة بأنها تعارض بين مفسدة ومصلحة لكن هذه الأخيرة أوسع ولذا قدمت فتأمل.
ومن فروع هذه القاعدة:
أولا: قال ابن القيم رحمه الله: “وتحريم الحرير إنما كان سدا للذريعة ولهذا أبيح للنساء للحاجة والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة ما حرم لسد الذريعة فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة” زاد المعاد 4/70.
ثانيا: قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه كما نهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك، وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوع في غير ذلك من الأوقات، ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات وهو أظهر قولي العلماء لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها فتفوت مصلحتها فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله في غير هذا الوقت فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة وفيه مفسدة توجب النهي عنه” الفتاوي 1/164.
ثالثا: قال ابن تيمية رحمه الله: “..ولذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لحاجة راجحة مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما فإنه يباح النظر للحاجة مع عدم الشهوة..” الفتاوي 15/419.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- قال شيخ الإسلام رحمه الله: “الذريعة ما كان طريقا إلى الشيء ولكن صارت في عرف الفقهاء عبارة لما أفضت إلى فعل محرم” الفتاوى الكبرى 3/100.
2- لا بد أن تكون كذلك غير متوهمة فإن “الموهوم لا يدفع المعلوم، و..المجهول لا يعارض المحقق” القواعد الحسان للسعدي 127.
3- هذا بخلاف مذهب الإمام مالك رحمه الله فإنه يأمر بسد الذرائع حتى مع الحاجة إليها انظر الفتاوي 23/215.
4- قال ابن القيم رحمه الله: “..فترك الخير الكثير الغالب لأجل الشر القليل المغلوب شر كثير” مفتاح راد السعادة 2/14.
5- والاستقراء حجة شرعية عند أهل العلم فتنبه.
6- هذا على التسوية بين سد الذرائع وتحريم الوسائل كما هو مذهب الإمام القرافي رحمه الله كما في الفروق 2/38، وغيره من المالكية، وذهب غيرهم إلى التفريق بينهما بجملة من الفروق من ذلك: أن تحريم الوسائل هي: أمر محظور في نفسه (أي: الوسائل) لأنه يؤدي إلى محظور شرعي، أما في سد الذرائع فحكم الذريعة في نفسها الإباحة. انظر قواعد وضوابط فقه الدعوة عند شيخ الإسلام ابن تيمية 157، والمسألة اصطلاحية لا غير والعلم عند الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *