حقيقة الرهن بين الشريعة والعوام الدكتور محمد أبو عام خطيب مسجد الخير/ بالمحمدية

يقول الله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” .
المعنى: لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل، والباطل أن تأخذ الشيء بغير حقه؛ أو هو كل طريق لم تبحه الشريعة الإسلامية كالسرقة والخيانة والغصب والربا والقمار وما شاكل ذلك. إلا أن تكون هذه الأموال تجارة مشروعة ومباحة مبنية على التراضي من البائع والمشتري.
وجاء التنصيص على التجارة -في الآية- لأنها الحلقة الجامعة لأعمال الحياة كالزراعة والصناعة والخدمات وغيرها.
وإذا نظرنا إلى أي فساد في الكون سنجد أن سببه هو أكل المال بالباطل، وما تعيشه أكثر دول العالم من اضطرابات وحروب أهلية ومجاعة وقحط وانعدام الأمن والاستقرار سببه أكل المال بالباطل.
إن المعاملات المالية على كثرتها تتطلب من الناس دراية ومعرفة حتى يتحروا طلب المال الحلال ويجتنبوا الكسب الحرام، فقد روي أن عمر رضي الله عنه كان يطوف بالسوق ويقول: لا يبع في سوقنا إلا من تفقه في الدين وإلا أكل الربا شاء أم أبى.
وتروج -في أيامنا- معاملة مالية بين الناس سموها ظلما أو جهلا أو تحايلا بالرهن، وهي في الحقيقة ليست رهنا وإنما هي نوع وضرب من الربا. وهذه المعاملة كانت محصورة في بعض المدن العتيقة كمراكش والصويرة وفاس وبدأت تمتد وتتسع لتشمل كبريات المدن كالبيضاء والرباط والمحمدية وغيرها.
وهذا ما سنوضحه من خلال حديثنا عن مفهوم الرهن ومشروعيته وأركانه وشروطه ومقاصده.

تعريفه
الرهن في اللغة: اللزوم والحبس، كما يطلق على الدوام والثبوت، فمن الأول قولهم: نعمة راهنة، أي ثابتة ودائمة، ومن الثاني قوله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ” ، أي محبوسة بكسبها، فمعتقها أو موبقها.
وأما معناه في الشرع: فقد عرفه العلماء بأنه جعل مال وثيقة في دين، ليستوفى منه عند تعذر وفائه، بحيث يمكن أخذ ذلك الدين، أو أخذ بعضه من تلك العين، فإذا استدان شخص دينا من شخص آخر وجعل له في نظير ذلك الدين عقارا أو حيوانا محبوسا تحت يده حتى يقضيه دينه، كان ذلك هو الرهن شرعا.
ويقال لمالك العين المدين “راهن”. ولصاحب الدين الذي يأخذ العين ويحبسها تحث يده نظير دينه “مرتهن”. كما يقال للعين المرهونة “رهن”.

مشروعيته
الرهن مشروع سفرا وحضرا، وقد ثبتت مشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى: “وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ” ، وأما السنة ما رواه أنس رضي الله عنه، قال “لقد رهن النبي -صلى الله عليه وسلم- درعه بشعير” .
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى من يهودي طعاما إلى أجل معلوم وارتهن منه ذرعا من حديد” .
وفي رواية: “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعا من شعير، اشتراه لأهله من يهودي إلى سنة، وافتك أبو بكر -رضي الله عنه- الدرع بعد وفاته، وقضى عنه الدين، وسلمها إلى علي -رضي الله عنه-، وكان ذلك حضرا بالمدينة.
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: “الرهن يركب بنفقته، ويشرب لبن الضرع إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة” .
وقد أجمع العلماء على جوازه وإن كانوا قد اختلفوا في مشروعيته في الحضر” .

أركانه
للرهن أربعة أركان لا يتحقق إلا بها:
الركن الأول: العاقدان: وهما الراهن والمرتهن، والراهن هو مالك الرهن، فهو المدين، والمرتهن هو الدائن، فهو آخذ الرهن المحتفظ به مقابل دينه.
الركن الثاني: الشيء المرهون: وهو كل ما يمكن أن يستوفى منه، أو من ثمنه، أو من منافعه.
الركن الثالث: الدين المرهون به، وشرطه أن يكون في الذمة، يمكن استيفاؤه من الرهن.
الركن الرابع: الصيغة، وتكون باللفظ الصريح، مثل خذ هذا رهنا، وتكون بغير اللفظ الصريح، كأن يدفع المدين للدائن سلعة، ويقول له أمسكها عندك حتى أوفي لك دينك، فإن تلك السلعة تكون رهنا.

مقاصده
يقصد من الرهن توثيق وضمان الدين لصاحبه، وليس المقصود منه الاستثمار والربح، لأنه قرض جر نفعا وكل قرض جر نفعا فهو ربا.

وخلاصة القول أن كل من أراد أن يفعل شيئا فإنه يجب عليه أن يعلم حكم الله فيه، فقد حكى القرافي في قواعده عن الشافعي في رسالته، والغزالي في إحياء علوم الدين الإجماع على ذلك، وقال ابن الحاج في المدخل: “قال المحققون في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” ما وجب عليك عمله وجب عليك العلم به” .
فإياك أن تحلل شيئا من عند نفسك أو تحرم شيئا حسب هواك. لأن هذا افتراء على الله، فصاحب التحليل والتحريم هو الله -جل وعلا- قال صلى الله عليه وسلم: “الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه” أبو داوود.
وقال الإمام القرطبي: قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا: إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. ومعنى هذا: أن التحليل إنما هو لله -عز وجل-، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون البارئ تعالى يخبر بذلك عنه” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *