عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ «يَا مُعَاذُ! وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ». فَقَالَ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ! لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ».
أخرجه أبو داود واللفظ له (1524)، والنسائي (1311)، وصححه النووي والألباني.
• من الفوائد هذا الحديث:
– في أخذه صلى الله عليه وسلم بيد معاذ رضي الله عنه صورة من صور تواضعه وتلطفه مع أصحابه امتثالا لقوله تعالى: “وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” (الشعراء215). وقد كان هذا العطف والتحبب من هديه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. فعَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي . فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «لاَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: «الآنَ يَا عُمَرُ» (البخاري 6632).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جُنُبٌ فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ..” (البخاري 283- مسلم 371).
– في هذا الحديث منقبة عظيمة لمعاذ رضي الله عنه، إذ “أقسم -صلى الله عليه وسلم- أنه يحبه، والمحب لا يدخر لحبيبه إلا ما هو خير له” (شرح رياض الصالحين للعثيمين 384).
– وفيه أن من أحب أحدا يستحب له إظهار المحبة له (عون المعبود 4/269). كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ». (صحيح الجامع 279).
– وفيه التحبب إلى المتعلم، مما يفتح قلبه لقبول ما يلقى إليه من العلم والحكمة. قال الشيخ العثيمين رحمه الله: “وإنما قال هذا له لأجل أن يكون مستعدا لما يُلقى إليه؛ لأنه يلقيه إليه من محب” (شرح رياض الصالحين).
– وفيه حرصه صلى الله عليه وسلم على نفع أصحابه والنصح لهم، كما قال تعالى: “لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ” (التوبة128).
– وفيه استحباب هذا الذكر في دبر كل صلاة، فمن أهل العلم من جعله من الأذكار التي تقال بعد السلام، ومنهم من جعله قبل السلام، باعتبار أن دبر الشيء جزء منه، مثل دبر الدابة، وإلى هذا جنح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتبعه على ذلك الشيخ العثيمين رحمه الله (انظر شرح رياض الصالحين).
– وفيه أن العبد لا حول له ولا قوة له إلا بالله، وأنه يحتاج إلى عون الله تعالى ليأذن له في ذكره، ويوفقه لشكره، ويسدده لحسن عبادته تبارك وتعالى. بل أصل ذلك كله وهو الإيمان بالله لا يدركه العبد إلا بإذن من مولاه، كما قال تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ” (يونس100). لذلك وجب على كل مؤمن أن يحمد الله على ما وفقه له من الإيمان، وأن يشكره على ما أذن له فيه من ذكره وطاعته، كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول عند الاستيقاظ من النوم: “الحمد لله الذي رد على روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره” (صحيح الجامع 329).
ونظرا لحاجة العبد إلى ربه، وشدة افتقاره إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فقد شرع لنا طلب العون منه تبارك وتعالى في كل ركعة من الصلاة، فيقول العبد: “إياك نعبد وإياك نستعين”، وكما شرع لنا طلب العون في بدايتها، شرع لنا ذلك في نهايتها، فيقول العبد: “اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك”.
فإذا تقرر هذا، وعُلم أن شكر العبد لربه على نعمته أعظم النعمتين عليه، فمتى يؤدي الواحد منا شكرَ نعمِ ربه، إذا كانت كلُّ نعمة نحمده عليها يُحدث لنا بها نعمةَ شكره عليها؟
لا نملك إلا أن نقول: اللهم عفوَك، فإنا عاجزون عن أداء شكرك.