مقدمة
من المقطوع به أنّ منتهى الطلب والغاية المعرفية من دراسة العلوم الشرعية وما به يقتدح زند العقل وتتسع به مدارك الأنظار وتظهر به جميع جهات المنظور فيه على تمام، وما به تتصور ماهيته كما هي في واقع الأمر، وتنكشف به الأغراض من الكلام وتظهر به، هو تحصيل النظر الفقهي المستتم في المنظور فيه، حكما كان، أو دليلا، أو محكوما عليه، أو محكوما فيه، أو علة حكم، أو حكمة، أو مقصدا شرعيا، وإدراك الحكم الصحيح على ثلَج صدْرٍ وطمأنينة نفس.
وأنت خبير بأن ما يصيب النظر من الآفات ويجره إلى التعسفات كثير، قد انتشر، منه تقصير الأنظار على جهات في موطن النظر، والانكفاف عن اعتبار ما سواها وإن كانت جديرة بالاعتبار، وسحب مقتضى السبر عليها بل وإن كانت أقوى وأرجح ما اعتبر واعتد به، وذلك قد يكون عن جهل أو قلة اطلاع، وقصور في الإدراك، وقد يكون عن هوى ورعونات في الأنفس، وغلبة الشهوات وهذا أدهى وأمرّ.
وكل ذلك لا يذهب غِشاوتَه ثم يمتد إلى إزالة الأود في طريقة النظر وبناء الأحكام إلا هذب النفوس وترويضها بإرغامها على العمل بمقتضى القواعد العلمية والقيم السامية التي بها جَوْحُ الصوارف عن استداد عمل الأذهان واستقامته، وتزكية البواطن من أدرانها.
وقيام هذا الهذب بالنفوس يبديه حصول ملكة التصرف في هذه العلوم في النفس وصيرورتها قائد النظر وحركة الذهن، وما به الترقي إلى درك التصور الصحيح، والحكم الصائب. وأي امرئ يكون ذهنه خِلْواً من هذا فإنه لا يثمر إلا حشفا ودقلا من الأفكار والآراء لا مبالاة بها عند أهل التحقيق، والعقول الراجحة القوية الإدراك.
وإذا تقرر هذا لديك، أدركت أنه لا مناص في سبيل درك تلك الغاية من الارتواء من هذه العلوم وتلقيها باستيعاب وتمام تحصيل.
والطريق الأحب إلى ذلك هو ليُّ الركب والانكباب على دراسة ما انطوت عليه بطون الأسفار من أثمار أنظار أولي النهى، ومن قواعد وضوابط وقيم يهتدى بها إلى استخراج مضامين مآخذ الأحكام، ومكنونات الأدلة، وتتقوم بها الأنظار وتستقيم بها على المنهج المسترشد فيه بمعالم وأعلام ثابتة بالبراهين الشرعية والعقلية والعادية التي تزول الراسيات ولا تزول هي، كما تحرر بها الأذهان من ضيق الإدراك وقصر النظر وغلبة المزاج وقهر العوائد الصارفة عن الاعتبار التام الواسع الشامل لكل ما تقتضي العقول الراجحة وواقع الحال جريان حكم الاحتمال المعتبر عليه.
ومن عيون هذه الأسفار «كتاب الموافقات» للإمام أبي إسحاق إبراهيم بنموسى الشاطبي، وهو كتاب جليل القدر عالي المستوى، قد أثنى عليه جمع من أهل الفضل والعلم، وحلوه بما هو به جدير من أوصاف الشرافة وعظم القدر، وحسن النظم وجمال السبك، وكثرة غلل الأنظار، والجمع بين اعتبار اللفظ الشرعي والمقاصد الشرعية والأسرار، وغير ذلك مما قام به من أوصاف وأحوال، ذكرها من تقدموا، فلا حاجة إلى اجترار ذكرها في هذا المقال.
غير أنه يجب أن نسوق للإفادة ما به يتصور حال هذا الكتاب في الأذهان من ملامح ومميّزات قامت به في بنائه، وفيما يصوغ عليه نفوس من ارتووا منه عقولهم من صورة في شأن فهم وضع الشريعة، وفي بناء أحكامها وما يتعلق بذلك. والقول الجملي في ذلك إن هذا الكتاب متضمنه: التنبيه على وجوب الاعتناء بأمور وقعت الغفلة عنها، والتغيير لمفاهيم يجب أن تتغير، والإضاءة لمسالك فقهية معتبرة ينبغي أن تسلك، والأخذ بأمور تربي على ضبط النظر والفهم، وأمور تحمي من سلطان رعونات النفوس وقهر أمزجتها.
هذه أهم ملامح هذا الكتاب بإيجاز وإجمال وَمن تشوّف إلى التفصيل فان له ملامح تفصيلية متعدّدة:
أحدها: إبرازه لكون دليل العناية جاريا في الأحكام الشرعية وبنية الشريعة فهو قائم بها.
فالعناية الإلهية تخالل وضع الشريعة وتركيبها وما هي عليها من حال.
وهذا مدرك بأدنى تأمل في كونها موضوعة على صورة روعيت فيها أحوال الخلق كلها بحيث وضع لكل حال منها السبيل الموافق له إصلاحا، وتعبدا، كما اعتبر فيها وضع السبيل الذي بسلوكه يجمع بين الأخذ بالحظوظ النفسية المباحة، والإتيان بالواجبات الشرعية، بحيث يعطى لكل ذي حق حقه من غير إفراط ولا تفريط.
وهذا يوخذ منه أمران:
أ- أن دليل العناية كما هو قائم بالخلق، فإنه -كذلك- قائم بهذه الشريعة، فكلاهما قام به برهان عقلي يقضي بأن هذا كله تقدير العزيز العليم.
ب- أن هذه الشريعة مبنية على وفق طبيعة الخلق الظاهرة والباطنية، ولعل هذا من الأسرار الموجبات لخلود هذا الدين، وانتشاره، وجريان حلاوة شعائره وشرائعه في النفوس.
ثانيها:ضبط معاني ومفاهيم الألفاظ التي تتعلق بها أحكام شرعية وحد ماهياتها، ويسلك في ذلك مسلك الذكر لكل معنى يستعمل فيه اللفظ الذي قصد إلى ضبط مفهومه الشرعي، باسطا في ذلك الكلام على وفق ما يقتضيه المقام وعلى قدر ما يتضح به المراد، ثم بعد ذلك يذكر ما به الحكم الشرعي من المعاني قاصدا إلغاء اعتبارها في هذا الشأن -تعلق الحكم الشرعي- وإلى إبقاء المعنى الذي يتعلق به الحكم الشرعي مبينا ذلك بالحجة والبرهان، على طريقة السبر والتقسيم المعروفة.
وهذا ما جرى عليه -رحمه الله تعالى- في لفظ (المشقة) و(الصحة) و(البطلان) و(الرخصة) و(المصلحة) و(المفسدة) وما ماثل ذلك من الألفاظ من جهة تعلق الأحكام الشرعية بها.
وما أتى به -رحمه الله تعالى- في هذا الشأن يزول به الغبش على البصيرة فيه، وتنفصل به المعاني بعضها عن بعض، كما يظهر التباين والاختلاف بين أحكامها على ثلج صدر، وصفاء نظر، وبذلك يعلم موطن الحكم الشرعي في ذلك مما سواه بينا واضحا.
وأنت خبير بأن ما يوقع في الحيرة والخطأ هو الجهل بمفاهيم ومعاني الألفاظ الشرعية التي تدل على معان وصفية تتعلق بها الأحكام الشرعية.
فالمشقة -مثلا- تطلق على صفات متعددة متفاوتة متنوعة، والرخصة لا تتعلق إلا بنوع معين منها وهو الحرج المرفوع، فمن جهله فإما أن يقول بالرخصة في غير محلها الشرعي، وإما أن ينكر جريانها في موضع هي مشروعة فيه، وهذا الحال يسري على جميع ما تتعلق به الأحكام الشرعية من الألفاظ من هذا النوع، ومن أخطرها وأهمها (المصلحة) و(المفسدة)، فضبط معنى هذين اللفظين ينير الطريق في شأن بناء الأحكام على المقاصد، فكان الضبط لها من الأمور المنيرة لسبيل التفقه في هذا الدين العظيم.
ثالثها: توسيع البحث والنظر ومده إلى جميع جهات وأحوال الموضوع المبحوث والمنظور فيه على استقصاء وتمام تفصيل، وكل ذلك قد نظم في سلك منهجي يقتضيه واقع حال ذلك الموضوع.
وقد اعتمد سبيل التوسيع هذا في كل موضوع درسه في هذا الكتاب، ويظهر ذلك باهرا لفرط تشعبه في مواضع معينة كالأحكام، والأسباب، والشروط، والألفاظ التي تتعلق بها أحكام شرعية ومعنى الاجتهاد الذي جعله أنواعا، فوسعه بذلك.
والأحلى والأجمل من ذلك أنه -أي الشاطبي- رحمه الله تعالى يذكر الثمرات الفقهية والشرعية التي توخذ من كل جهة درست من تلك الجهات، ثم أنه يمد نظره وبحثه إلى ما يكون من أثمار الأنظار في ذلك مستشكلا، ثم يذكر وجه الاستشكال في ذلك وموجبه، ثم الوجوه النظرية والأدلة التي يكون بها تخريج الحكم في ذلك على سبيل ووجه ينفصل به عن ذلك الإشكال.
وهذا كله من الثمرات المعرفية المجتناة من الاطلاع على ما سطره رحمه الله تعالى في هذا الموضوع.
إلى هنا انتهت حلقة هذا العدد، وفي العدد القادم بحول الله لملامح أخرى لهذا الكتاب.