سبق في الحلقة الماضية البحث في كيفية التحلل من المال الحرام الذي أخذ بغير رضى صاحبه كالمال المسروق والمغصوب ونحو ذلك. وذكرنا أن سبيل التوبة من هذا المال أن يرد إلى صاحبه إن كان حاضرا، وإن كان غائبا انتظر حتى يعود، ويبحث عنه إذا جهل محل إقامته، فإن بحث عنه ولم يجده أو وجده قد مات فالواجب ردّ ماله إلى ورثته.
وسنتكلم في هذه الحلقة عن حكم المال الحرام إذا أخذ من صاحبه برضاه واختياره. كالعوض الذي يدفع لقاء البغاء، وأموال الرشوة وأجرة النياحة والغناء والكهانة وكسب القمار وما أشبه ذلك من المكاسب المحرمة.
* أقوال العلماء في هذه المسألة:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
* القول الأول: وهو قول الحنفية وقول عند المالكية وأحد القولين عند الحنابلة أن المال الحرام المبذول في المعصية برضى مالكه لا يرد إليه ولا يكون ملكا لمن أخذه، بل يصرف في مصالح المسلمين.
* ما استدل به أصحاب هذا القول:
* احتج أصحاب هذا القول بما روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحدكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه: بعير له رغاء ، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرتي إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت مرتين” .
ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية بردّ الهدية التي أهديت له لمن أهداها، وتغليظه وإنكاره على ابن اللتبية يدل على عدم جواز أخذها فلم يبق إلا ردّها إلى بيت مال المسلمين.
– واحتجوا أيضا بما أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يصادر الأموال التي يأخذها الولاة بسبب الولاية أو يشاطرهم نصفها.
قال شيخ الإسلام: ولهذا شاطر عمر بن الخطاب من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة، وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة غيرهم، وكان الأمر يقتضي ذلك لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية .
* القول الثاني:
قول الشافعية والحنابلة في الصحيح عندهم: أن المال المبذول في الحرام يرد إلى صاحبه ولا يرد في مصالح المسلمين.
ما استدل به أصحاب هذا القول:
* احتج أصحاب هذا القول بالقياس على المقبوض بالعقد الفاسد ، فإن المقبوض بالعقد الفاسد يجب ردّه إلى مالكه لا إلى بيت المال.
* واحتجوا أيضا بعدم زوال ملك صاحب المال عنه لأنه لم يدخل في ملك الآخذ. إذ المعاصي والمحرمات ليست من الأسباب الشرعية الناقلة للملكية.
* والذي يظهر أن القول الأول أصح، لقوة ما استدلوا به. وممن نصر هذا القول الإمام ابن القيم رحمه الله، قال في مدارج السالكين: “فإن قابضه -أي المال الحرام- إنما قبضه ببذل مالكه ورضاه ببذله، وقد استوفى عوضه المحرم فكيف يجمع له بين العوض والمعوض؟ وكيف يرد عليه مالا قد استعان به على معاصي الله ورضي بإخراجه فيما يستعين به عليها ثانيا وثالثا؟ وهل هذا إلا محض إعانته على الإثم والعدوان؟ وهل يناسب هذا محاسن الشرع أن يقضى للزاني بكل ما دفعه إلى من زنى بها طوعا أو كرها فيعطاه وقد نال عوضه؟” .
* وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني من القياس، فقد أجاب عنه شيخ الإسلام بقوله: “ومن ظن أنها ترد على الباذل والمستأجر لأنها مقبوضة بعقد فاسد فيجب ردّها عليه كالمقبوض بالربا ونحوه من العقود الفاسدة، فيقال له: المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين، فيردّ كل منهما على الآخر ما قبضه منه كما في تقابض الربا عند من يقول: المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك.. فإذا أقبضه إياه عوضا عن منفعة محرمة قلنا له: دفعته بمعاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت إذا كان في بقائه معه منفعة .
* وأما احتجاجهم بعدم زوال ملك صاحب المال الحرام عنه وعدم دخوله في ملك الآخذ، فأجاب عنه ابن القيم بقوله: “وهب أن هذا المال لم يملكه الآخذ فملك صاحبه قد زال عنه بإعطائه لمن أخذه.. وصاحبه قد رضي بإخراجه عن ملكه بذلك وأن لا يعود إليه فكان أحق الوجوه به صرفه في المصلحة التي ينتفع بها عن قبضه فيخفف عنه الإثم ولا يقوى الفاجر به ويعان ، ويجمع له بين الأمرين”.
وبالله التوفيق.