مرّ على إغلاق دور القرآن قرابة ثلاثة أشهر ولا زالت أبوابها موصدة تسأل ربها الفرج، وتحن جنباتها لترتيل الطلبة لكلام الله تعالى..
قد اغبرت رفوفها، وهُجرت مصاحفها، وتشرد تلامذتها في الشوارع، وأما أساتذتها فأحيلوا على فئة المعطلين ومنعوا من أداء دورهم التربوي، فأصبح منهم من يستحيي أن يدخل على أولاده لأنه بلا مورد يعولهم منه.
سدت دور القرآن في وجه الراغبين في حفظ كتاب الله تعالى، في الوقت التي تفتح فيه المزيد من الحانات أبوابها في وجه المواطنين، وتستصدر رخص الكازينوهات، وتمول من المال العام المهرجانات..
حرم مريدو دور القرآن وهم لا يريدون غير حفظ كتاب الله، وفي المقابل تشجع الراقصة على رقصها، وتمدح المغنية على غنائها، ويوشح صدر الممثلة بالجوائز على تمثيلها، وتستأمن البغِيُّ على إفسادها..
أغلقت مدارس العلم، وفتحت مدارس الرقص والسباحة والموسيقى والتمثيل والمسرح والغناء، وانتشرت دور البغاء..
حُلَّت الجمعيات القرآنية وضيق عليها، وتُوِّجت الجمعيات العلمانية بما يقر ضميرها الحداثي..
ما زال الآلاف من المغاربة الذين تشبثوا بأصالة منهجهم الإسلامي يتساءلون عن القرارات اللامسؤولة التي طالت مقرات الجمعيات القرآنية التي كانوا يستفيدون منها ويحفظ فيها فلذات أكبادهم كتاب ربهم.
ففي الوقت الذي سمعوا فيه الإعلان عن أن المغرب ماض قدما في طريق تحقيق التقدم في إطار تمتيع المواطنين بالحريات، وفتح المجال لاستمتاع الأفراد بحقوقهم، يتفاجأون بالصمت الرهيب عن قضية حرمانهم من حقهم في ممارسة أنشطتهم الدينية والاستفادة من أنشطة الجمعيات القرآنية التي طالها قرار الإغلاق وصارت بين عشية وضحاها في حكم المخالف لثوابت الأمة، وأصبحت تشكل تهديدا للأمن الروحي للمغاربة..، والحاقد والجاهل يعلم أن هذه الجمعيات ودُورها هي من أكبر الحماة غيرة على ثوابت الأمة، وأنها خير حارس للأمن الروحي للمغاربة.
لقد أصبح من الواضح أن وزير الأوقاف قد حدد التدين الرسمي للدولة في التوجه الصوفي، وتبنى الطريقة البودتشيشية القادرية بحكم أنه من مريديها، مستغلا بذلك ما جرى تأصيله في كتب بعض المالكية المغاربة من أنهم اختاروا وارتضوا سلوك الإمام الجنيد، وهو ما عبر عنه ابن عاشر رحمه الله في نظمه بقوله:
وعقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك
لكن السؤال المطروح هل التصوف الذي اختاره وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد توفيق هو تصوف الإمام الجنيد الذي كان متبعا يقدم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أم هو تصوف قائم على تعظيم الشيخ وتقديسه، وتقديم كلامه على كلام النبي صلى الله عليه وسلم، واستبدال أوراد الشرع بأوراده، وهو مجموعة طقوس يختلط فيها التدين بالذكر المبتدع، والمعتقد الفاسد؟
إن الخطوات التي تنتهجها المؤسسات الدينية في المغرب والمتمثلة في دعم ونشر الفكر الصوفي وفي المقابل محاربة المنهج السلفي، هو ما أملاه تقرير “راند” على الولايات المتحدة الأمريكية لتلزم به الدول التي تعيش تحت تبعيتها، حيث دعا التقرير إلى بناء شبكات إسلامية معتدلة تتبنى الصوفية مذهبا وعقيدة وسلوكا، ومحاربة التدين السلفي العلمي الذي يقوم على الدليل من الكتاب والسنة، ويتقيد بهما ويريد إحياء النموذج النبوي في زمننا الحاضر لأنه يبني أفكاره على مثل قول الإمام مالك رحمه الله: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.
إن إغلاق دور القرآن بالمغرب كان سببا لتشويه سمعته في العالم الإسلامي حيث وصف بأنه يحارب القرآن، خصوصا وأن الكثيرين في الخارج يعلمون ما تقدمه هذه الدور من خدمة لكتاب الله تعالى، إذ كانت سببا بعد توفيق الله سبحانه في تخريج زمرة طيبة من القراء المباركين الذين يشنفون مسامع المسلمين في ربوع الوطن، مسهمين بذلك في تحقيق أمنهم الروحي، وتلبية حاجاتهم التعبدية.
لقد بات واضحا منذ فترة أن وزير الأوقاف أحمد توقيف مقدم على سياسات من شأنها أن تفقر المجال الديني في المغرب، فمن خطة إعادة هيكلة الحقل الديني والتي تخللتها تدابير عدة كان أخطرها إدماج العلمانيين في المندوبيات كي يتحكموا في العلماء وفق ما تقتضيه سياسة الوزير، مرورا باستقدام صديقه الأمريكي لدار الحديث الحسنية، وبتسريح عدد من الأئمة والخطباء والوعاظ والقيمين الدينيين لأنهم رفضوا أن يكونوا أقماع يمرر من خلالهم وزير الأوقاف تطبيقات نظريته، إلى التجرؤ على إغلاق دور القرآن لإعدام التيار السلفي، فهل سيتابع الوزير العمل بخططه ومناهجه في محاصرة كل من يخالفه الرأي لتهيئة المجال للهيمنة العلمانية على حياة الفرد والمجتمع في المغرب؟
أم أن منهجه التساوقي بين الديني والسياسي من شأنه أن يخلق حياة متكاملة بين المبادئ العلمانية والفكر الصوفي ملؤها المزيد من التبعية للغرب وقوانينه باسم الانفتاح والتعايش؟