قال الإمام الذهبي: اختلفوا في قراءة أبي جعفر رحمه الله
فبعض العلماء عدها من المتواتر والصواب أنها ليست بشاذة ولا هي بالمتواترة بل هي مما نقله العدل عن العدل وأنها متلقاة بالقبول لثقة حملتها ولموافقتها لرسم الإمام ولفصيح لغة العرب.. وحسبك أنه أقرأ الناس الحروف في أيام الصحابة وكبار التابعين في مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنكرها عليه أحد منهم؛ وما زال كبار القراء قديما وحديثا يقرئون بها أويسمعون من يقرئ بها ولا يزجرونه.
وهذا مالك في جلالته وفقهه كان يرى أبا جعفر يقرئ بحروفه ولا ينكر عليه؛ بل قد حدث عنه ولولا عدالته عنده لما روى عنه شيئا؛ وابن مجاهد وغيره من العلماء لم ينكروا على ابن شنبوذ قط قراءته بحرف أبي جعفر ولا بحرف يعقوب وإنما نقموا عليه إقراءه بحروف خالفت المصحف كما أوضحناه في ترجمته والله أعلم. (معرفة القراء الكبار ص:55).
قلت: هذا الخلاف الذي حكاه الإمام الذهبي ليس مقتصرا على قراءة أبي جعفر فحسب بل إنه وارد فيما زاد على القراءات السبع، فإن العلماء حين تكلموا عن التواتر الوارد في القراءات حكموا بتواتر السبع ولا خلاف بينهم في هذا؛ ومن ثم فهم بعض العلماء أن الحكم بتواتر السبع مشعر بعدم تواتر ما زاد عليها.
قال الإمام تقي الدين السبكي في شرح المنهاج: قال الأصحاب تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بالقراءات السبع، ولا تجوز بالشاذة؛ وظاهر هذا يوهم أن غير السبع المشهورة من الشواذ. (النشر 1/59)
وقال ولده في منع الموانع: إنما قلنا في جمع الجوامع والسبع متواترة؛ ثم قلنا في الشاذ والصحيح إنه ما وراء العشرة ولم نقل والعشر متواترة؛ لأن السبع لم يختلف في تواترها فذكرنا أولا موضع الإجماع ثم عطفنا عليه موضع الخلاف.
قال: على أن القول بأن القراءات الثلاث غير متواترة في غاية السقوط ولا يصح القول به عمن يعتبر قوله في الدين وهي لا تخالف رسم المصحف، قال وقد سمعت أبي يشدد النكير على بعض القضاة وقد بلغه أنه منع من القراءة بها واستأذنه بعض أصحابنا مرة في إقراء السبع فقال أذنت لك أن تقرئ العشر؛ انتهى. (الإتقان 1/217).
وقال ابن الجزري في النشر: (وقد جرى) بيني وبينه في ذلك كلام كثير وقلت له ينبغي أن تقول والعشر متواترة ولا بد، فقال أردنا التنبيه على الخلاف.
فقلت: وأين الخلاف، وأين القائل به؟
قال إن قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف غير متواترة فقال: يفهم من قول ابن الحاجب والسبع متواترة، فقلت: أَيُّ سبع؟ وعلى تقدير أن يكون هؤلاء السبعة؛ مع أن كلام ابن الحاجب لا يدل عليه فقراءة خلف لا تخرج عن قراءة أحد منهم؛ بل ولا عن قراءة الكوفيين في حرف فكيف يقول أحد بعدم تواترها مع ادعائه تواتر السبع؛ وأيضاً فلو قلنا إنه يعني هؤلاء السبعة فمن أي رواية ومن أي طريق ومن أي كتاب إذ التخصيص لم يدعه ابن الحاجب ولو ادعاه لما سلم له.
إلى أن قال :فقراءة يعقوب جاءت عن عاصم، وأبي عمرو؛ وأبو جعفر هو شيخ نافع ولا يخرج عن السبعة…
وقد كتب له ابن الجزري استفتاء فيه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين في القراءات العشر التي يقرأ بها اليوم وهل هي متواترة أم غير متواترة وهل كلما انفرد به واحد من العشرة بحرف من الحروف متواتر أم لا وإذا كانت متواترة فما يجب على من جحدها أو حرفاً منها؟ فأجابني ومن خطه نقلت: الحمد لله، القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف متواترة معلومة من الدين بالضرورة وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل…(النشر 1/61).
وقال ابن الجزري: والعجب ممن يطعن في هذه القراءة أو يجعلها من الشواذ وهي لم يكن بينها وبين غيرها من السبع فرق كما بيناه في كتابنا المنجد. (غاية النهاية ص 446)
وقال تقي الدين السبكي: وقد نقل البغوي الاتفاق على القراءة بقراءة يعقوب وأبي جعفر مع السبع المشهورة وهذا القول هو الصواب (الإتقان 1 /217).
وقال ابن تيمية: أكثر العلماء الأئمة الذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان بن عينية وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح المدنيين، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب وغيرهم على قراءة حمزة والكسائي (الفتاوى13/393).
قلت:وهذا الموضوع يحتاج إلى بسط أكثر من هذا ولكن المقام لا يسمح بذلك فعسى أن تسنح لنا فرصة بذلك لاحقا فنوفي الموضوع حقه وبهذا نغلق حلقة هذا العدد وفي العدد القادم سنتعرض إن شاء الله تعالى إلى راووي أبي جعفر وهما عيسى بن وردان وابن جماز فترقبوا ذلك.