5- ثبوت الحكم لله تعالى يتضمن ثبوت جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى:
قال ابن حصار: “وقد تضمن هذا الاسم -أي الحكم- جميع الصفات العلى والأسماء الحسنى، إذ لا يكون حكما إلا سميعا بصيرا عالما خبيرا إلى غير ذلك، فهو سبحانه الحكم بين عباده في الدنيا والآخرة في الظاهر والباطن وفيما شرع من شرعه وحكم من حكمه وقضاياه على خلقه قولا وفعلا، وليس ذلك لغير الله، ولذلك قال وقوله الحق: “لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ”..” .
“وفي هذا إبطال لجعل الحكم لغير الله، لأن الحكم لا يكون إلا لكامل الصفات الذي له الأمر وبيده التصرف، وتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: “فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ” غافر:12، وقوله تعالى: “وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” القصص:70، وقوله تعالى: “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ”، ثم قال مبينا صفات من له الحكم: “ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” الشورى:10-12″ .
6- اتصاف العبد بالحكمة نعمة من أجل النعم:
إن من نعم الله تعالى وآلائه على عبده أن يرزقه الحكمة فإن من رزقها رزق الخير بحذافيره، كما قال ربنا جل في علاه: “يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً” البقرة:269.
يقول العلامة السعدي: “والحكمة هي العلوم النافعة والمعارف الصائبة والعقول المسددة والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وهذا أفضل العطايا وأجل الهبات، ولهذا قال:”وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً”، لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها وحصول السداد، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم واستعد لنفع الخلق أعظم نفع في دينهم ودنياهم..” .
يقول الإمام القرطبي في تفسيره: “واختلف العلماء في الحكمة هنا، فقال السدي: هي النبوة، وقال ابن عباس: هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدمه ومؤخره، وقال قتادة ومجاهد: الحكمة هي الفهم في القرآن، وقال مجاهد: الإصابة في القول والفعل، وقال ابن زيد: الحكمة العقل في الدين، وقال مالك بن أنس: الحكمة المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له، وقال أيضا: الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به، وقال الربيع بن أنس: الحكمة الخشية، وقال ابراهيم النخعي: الحكمة الفهم في القرآن، وقاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: الحكمة الورع.
قلت -القائل هو القرطبي- :وهذه الأقوال كلها ما عدا السدي والربيع والحسن قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة وسنة نبيه حكمة، وأصل الحكمة ما يمنع من السفه، فقيل للعلم: حكمة، لأنه يمتنع به..” .
فالحكمة من أكبر عطايا الله تعالى ونعمه، فبالحكمة يتعامل المسلم بالشيء المناسب مع الشخص المناسب في الوقت المناسب والمكان المناسب، فيضع الأشياء مواضعها المناسبة لها.. بالحكمة يرد المسلم كيد عدوه بل قد يقلب هذه العداوة إلى محبة، بالحكمة يستطيع المسلم أن يسوس أسرته ومن ولي أمره أحسن سياسة..
يقول السعدي رحمه الله: “وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي: وضع الأشياء في مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في محل الإحجام” .
وفي الحديث: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، وآخر أتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها” رواه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
فهذا الحديث دلّ على عظم شأن الحكمة وأنها من أعظم ما يغبط عليه العبد، وما ذلك إلا لأن صاحبها يزن الأمور بميزان الحق، ويضع الأشياء مواضعها، ويكون أبعد ما يكون عن الجور والحيف والتهور.