من فقه البيوع النوع الثاني من البيوع المحرمة: بيوع الغرر(1) الحلقة الرابعة: بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها ياسين رخصي

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار(2) حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع” (البخاري:2194 ومسلم:1534).
وعن جابر رضي الله عنه قال: “نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حتى تُشْقَح، فقيل وما تشقح؟ قال: تحمارُّ وتصفار ويؤكل منها” (البخاري:2196).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يَسْودَّ، وعن بيع الحب حتى يشتد” (أخرجه الخمسة إلا النسائي).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟!” وفي رواية له أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح.
إعلم رحمك الله أن هذا الباب يندرج تحته مسائل كثيرة جدا، وإنما نذكر منها ما تمس الحاجة إلى معرفته، وسينتظم كلامنا عن ذلك في ثلاث مسائل بحسب ما دلت عليه الأحاديث المذكورة:
المسألة الأولى: حكم بيع الثمار قبل بدو صلاحها.
المسألة الثـانية: علامة صلاح الثمرة.
المسألة الثـالثة: وضع الجوائح.
المسألة الأولى: حكم بيع الثمار قبل بدو صلاحها
بيع الثمار على قسمين:
القسم الأول: بيعها قبل أن تُخلق.
القسم الثاني: بيعها بعد أن تُخلق.
فأما القسم الأول: وهو بيعها قبل أن تخلق فجميع العلماء مطبقون على تحريم ذلك(3)، لما في صحيح مسلم “أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين” (مسلم:1536).
قال النووي رحمه الله: “وأما النهي عن بيع المعاومة: وهو بيع السنين، فمعناه أن يبيع ثمر الشجرة عامين أو ثلاثة أو أكثر، فيسمى بيع المعاومة وبيع السنين، وهو باطل بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره لهذه الأحاديث، ولأنه بيع غرر لأنه بيع معدوم ومجهول غير مقدور على تسليمه وغير مملوك للعاقد”(4).
وأما القسم الثاني: وهو بيعها بعد أن تخلق فإنه يقع على حالين:
الحال الأولى: بيعها قبل بُدُوِّ صلاحها.
الحال الثانية: بيعها بعد بدو صلاحها.
فأما الحال الأولى: وهو بيعها قبل بدو صلاحها فلا يخلو من ثلاثة أوجه:
– الوجه الأول: أن يقع بيع الثمرة بشرط قطعها في الحال.
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي رحمه الله: “فأما بيعها بشرط القطع فجائز بلا خلاف لانتفاء الغرر”(5)، وقوله رحمه الله: “فجائز بلا خلاف” وهْمٌ في حكاية الإجماع كما نبّه عليه الحافظ ابن حجر(6)، فقد ذهب ابن أبي ليلى والثوري إلى المنع مطلقا.
وممن ذهب إلى المنع في هذه الصورة أيضا من المتأخرين الإمام الشوكاني(7) رحمه الله، لكن من أجاز ذلك، وهم جماهير العلماء، أجازوه لإمكان الانتفاع بالثمرة المقطوعة قبل أوانها في أغراض صحيحة غير الأكل، كجعلها علفا للدواب ونحو ذلك.
– الوجه الثاني: أن يقع بيع الثمرة قبل صلاحها بشرط تبقيتها في الشجرة إلى وقت الصلاح.
قال القاضي عبد الوهاب: “وأما بيعها بشرط التبقية فباطل من غير خلاف”(8)، والأصل فيه نهيه صلى الله عليه وسلم “عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، نهى البائع والمشتري” (متفق عليه)، لأن الغرر يكثر فيها، والانتفاع بها والآفات والعاهات لا تؤمن عليها في تبقيتها… فإذا تتابع طيبها أُمِنَت الآفات عليها في الغالب، وقلّ الغرر فيها فجاز بيعها.
وقول ابن عمر: “نهى البائع والمبتاع” قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري فلئلا يضيع ماله ويساعد البائع على الباطل، وفيه أيضا قطع النزاع والتخاصم”(9).
– الوجه الثالث: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مطلقا، أي من غير اشتراط قطع أو إبقاء.
قال القاضي عبد الوهاب: “وأما بيعها مطلقا فغير جائز خلافا لأبي حنيفة، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها”.
قال الحافظ ابن حجر: “وسبب النهي عن ذلك خوف الغرر لكثرة الجوائح فيها”(10).
وأما الحال الثانية: وهو بيعها بعد بدو صلاحها، فإنه لا يخلو أيضا من أحد ثلاثة أوجه:
– الوجه الأول: أن يقع بيع الثمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع، قال القاضي عبد الوهاب: “فجائز من غير خلاف”.
– الوجه الثاني: أن يقع بيعها بعد بدو صلاحها بشرط إبقائها، قال القاضي عبد الوهاب: “فذلك جائز أيضا خلافا لأبي حنيفة”.
قال بعض أهل العلم: “إن جهلت مدة بقاء الثمرة لم يجز” وأجيب بأن الإطلاق في العقود محمول على العرف، والعرف في الثمار إذا بيعت تبقيتها إلى وقت الجذاذ والإدراك، فوجب حمل الإطلاق على ذلك.
– الوجه الثالث: أن يقع بيع الثمرة بعد بدو صلاحها على وجه الإطلاق، أي من غير شرط قطع ولا إبقاء، قال القاضي عبد الوهاب: “فجائز أيضا من غير خلاف”.
تنبيه: القول في الحبوب كالقول في الثمار، فلا يجوز بيع الحبوب حتى تشتد.
وسيأتي في الحلقة القادمة إن شاء الله الكلام عن علامة صلاح الثمار والحبوب، ومسألة وضع الجوائح.
والله الموفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سبق من كلام شيخ الإسلام أن بيع الغرر: كل بيع مجهول العاقبة.
2- الثمار بكسر الثاء المثلثة جمع ثمرة بفتح الميم وهو يتناول ثمار النخيل وغيره من الشجر.
3- “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” (2/247).
4- “شرح مسلم” للنووي (10/190).
5- أنظر هذا النقل وما بعده من النقول عن القاضي عبد الوهاب في كتابه “المعونة على مذهب عالم المدينة” (2/40-39).
6- “الفتح” (4/498).
7- “السيل الجرار” (2/570).
8- هذا أيضا من المواضع التي حكى ابن حجر وهْمَ من قال بالإجماع فيها، وممن خالف في ذلك: يزيد بن أبي حبيب رحمه الله، وانظر “الفتح” (4/498).
9- “الفتح” (4/500).
10- “الفتح” (4/501).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *