الحكيم الحكم الحاكم جل في علاه الحلقة التاسعة والعشرون ناصر عبد الغفور

اتصاف الله تعالى بالحُكم والحكمة: 

من خلال أقوال العلماء في تعريف أسماء الله الحكيم والحكم والحاكم يلاحظ تقارب هذه الأسماء، فاسم الحكيم يتضمن وصفين كل منهما بلغ غاية التمام ونهاية الكمال وهما الحكم والإحكام -أو الحكمة-، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته:
وهو الحكيم وذاك من أوصافه *** نوعان أيضا ما هما عدمان
حكم وإحكام فكل منهما *** نوعان أيضا ثابتا البرهان
فما المراد بحُكم الله وحكمته؟
حكم الله تعالى:
حكم الله جل وعلا ينقسم إلى قسمين: حكم شرعي وحكم كوني قدري:
الحكم الشرعي أو التكليفي: وهو ما دل عليه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب فعل أو ترك أو تخيير” ، ويقسمه الأصوليون إلى خمسة أحكام: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح. “فهذا الحكم هو متعلق إرادته الدينية الشرعية ويتناول كل ما كلف الله به عباده على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام من أفعال وتروك” .
ومن شواهد هذا الحكم قوله تعالى: “أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً” (الأنعام 114).
الحكم الكوني القدري: يتعلق بكل ما شاء الله كونه مما سبق به قدره كما في قوله تعالى: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ”، ومن شواهد هذا الحكم قوله جل وعلا: “ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ”، ولا تلازم بين هذين الحكمين فبينهما عموم وخصوص:
فالأول يتعلق بمحبة الله تعالى، قد ينفذ وقد لا ينفذ، بخلاف الثاني فإنه يتعلق بالنفوذ لا بالمحبة.
فمثال الأول العدل، قال تعالى: “إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..” فالعدل واجب ومأمور به لكنه هل نفذ في كل الناس؟ لا، فكثير منهم ظلم وجار وعلى غير طريق العدل سار.
ومثال الثاني: القضاء على بني إسرائيل بالفساد، قال تعالى: “وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ..”، وهذا الإفساد وقع من بني إسرائيل لأنه تعالى قضاه وشاءه كونا وقدرا مع أنه سبحانه لا يحب الفساد ولا يصلح عمل المفسدين.
وهذان الحكمان قد يجتمعان وقد يفترقان، “فالحكم الكوني القدري ينفرد في مثل كفر الكافر ومعصية العاصي فهو مراد بالإرادة الكونية دون الشرعية.
والحكم الشرعي ينفرد في مثل إيمان الكافر وطاعة العاصي فهو مراد بالإرادة الشرعية دون الكونية.
ويجتمع الحكمان معا في مثل إيمان المؤمن وطاعة المطيع، فهو مراد بالإرادتين معا” .
وهذا ما أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله في قوله:
والحكم شرعي وكوني ولا *** يتلازمان وما هما سيان
بل ذاك يوجد دون هذا مفردا *** والعكس أيضا ثم يجتمعان
فحكم الله تعالى الشرعي يتعلق بالإرادة الشرعية، وحكمه الكوني يتعلق بالإرادة الكونية.
و”الفرق بين الإرادتين من وجهين:
– الإرادة ا الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم.
– الإرادة الشرعية تختص فيما يحبه الله، والكونية عامة فيما يحبه الله وما لا يحبه” .
وقد يتساءل المتسائل: كيف يحكم الله بالشيء كونا وقدرا وهو لا يحبه؟
والجواب؛ أن الشيء قد يكون مكروها من وجه ومحبوبا من وجه آخر، بيانه:
الله تعالى يقضي بالكفر والمعاصي وغير ذلك مما لا يحبه لما في ذلك من الحكم العظام التي قد لا يحيط بها كثير من الأنام، ولنضرب مثالا برأس الشر كله والفساد كله إبليس اللعين المطرود من رحمة رب العالمين، حكم الله كونا وقدرا بوجوده بل وبإغوائه للناس فلا بد من وقوع ذلك، لنتصور عدم وجود هذا العدو وعدم إغوائه لبني آدم، ماذا سيحدث؟
– لن يتميز كفر من إيمان.
– لن يتميز حق من باطل.
– لن يكون هناك جهاد لا أكبر ولا أصغر.
– لن تكون هناك ذنوب؛ وبالتالي لن يكون هناك استغفار ولا توبة ولا إنابة إلى العزيز الغفار..
وما يقدره الله تعالى ويحكم به كونا إن كان مما لا يحبه كالكفر والمعاصي فهذا من حيث كونه من قدر الله نرضى به، لأن تقديره سبحانه لا يكون إلا خيرا ، ومن حيث كونه مقدورا فلا يجوز الرضا به.
وهذا معنى قول ابن القيم رحمه الله تعالى:
فلذلك نرضى بالقضاء ونسخط الـــــــــــــمقضي حين يكون بالعصيان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *