المقدمة الثانية
في أن الأدلة المستعملة في إثبات الأصول وبناء قواعدها الجزئية لا تكون إلا قطعية، وفي ذلك يقول:
ذا العلم ذو أدلة كلية عقلية………………..
«ذا» أي هذا «العلم» يعني علم الأصول علم لا يعتمد على الأدلة الظنية ولا الأدلة الجزئية، ولذلك فإنه في محتواه وأساسه «ذو» صاحب «أدلة» جمع دليل -وهو ما يمكن بصحيح النظر فيه التوصل إلى مطلوب خبري- ووصفه بالصاحب هو كقولك: بئر ذو ماء عذب، ورجل ذو علوم عقلية -تريد أن ذلك من ماهيته وحقيقته-، «كلية» تنطوي تحتها كل الجزئيات الصالحة للانطواء تحتها من غير حصر، وهي إما «عقلية» كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة؛ ومن المقرر أن كل مسألة أصولية لا تبحث إلا إذا علم أصلها من جهة الحكم، لأن ما لا تقبله العقول السليمة لا يقبل شرعا.
……………………… ………… عاديـة سمعيـة
فما أتـى دليلا أو مقدمة فيه فبالقطع تكون معلمـة
وأشرف الأدلة السمعية مـا كـان ذا دلالـة قطعيـة
تواترت لفظا………… …………………………
وإما «عادية» وهي كذلك تعتريها الأحوال الثلاثة، فتنقسم إلى واجبة، وممكنة، ومستحيلة؛ بحكم ومقتضى اطراد العادات؛ وإما «سمعية» كنصوص الكتاب والسنة.
وبناء على ذلك «فما أتى» وسيق «دليلا» وحجة «أو مقدمة» من دليل «فيه» أي في هذا العلم والقصد من الإتيان به وإيراده هو الاستدلال على بناء حكم في مسألة أصولية «فـ» إن تلك المقدمة «بالقطع» ثبوتا ودلالة «تكون معلمة» موصوفة وموسومة، ومقتضى ذلك أن الأدلة الظنية لا يعتمد عليها في مجاري الحجاج والاستدلال على بناء الأحكام في المسائل الأصولية.
«وأشرف» أي أجلّ «الأدلة السمعية» النقلية المستعملة في هذا العلم هو «ما كان» منها «ذا دلالة قطعية».
وهو ما كان نصا في معناه فلا يقبل إلا معنى واحدا، بشرط أن تكون قد «تواترت لفظا» بأن تكون قد رواها بلفظها جمع عن جمع -يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة- من أولها إلى منتهاها.
………………. عليه يبنى أو ما له تواتر في المعنى
أو ما استفدناه من استقراء موارد الشريعة السمحـاء
وهذا الضرب من الحديث «عليه يبنى» في علم الاصول، ويحتج به فيه لأنه قطعي الثبوت فهو كالعيان، مثال ما تواتر لفظه حديث «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، «أو ما» الذي استقر وثبت «له تواتر في المعنى»، ويسمى المتواتر المعنوي وهو ما اتفق نقلته -الذين يشترط فيهم أن يكونوا جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، كما تقدم ذكره- على معناه من غير مطابقة في اللفظ، كأحاديث الشفاعة وأحاديث نبع الماء بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
«أو ما» أي العلم الذي «استفدناه» وتوصلنا إليه «من» جهة «استقراء» تتبع «موارد» أدلة أحكام «الشريعة السمحاء»، وهي هذه الشريعة الإسلامية العظيمة، ووصفت بالسمحة لأنها ليس فيها ضيق ولا شدة؛ والمعروف هو وصف هذه الشريعة بالسمحة -بالهاء- وأما السمحاء بالمد وصفا لها، فلم أر من ذكره إلا ما كان من المصنف هنا.
وحكم كل ذاك في الدلالـة °°° وجوب أو جواز أو إحالة
ويلحق الوقوع في الجميع °°° بـهـذه وعـــدم الــوقـــوع
وكـونـه حجـة أو لا ذلكــا °° يؤخذ من وقـوعـه كذلـكـا
«وحكم كل ذاك» الذي تقدم ذكره سواء كان دليلا عقليا أو عاديا «في الدلالة» على ما دل عليه من حكم هو «وجوب» عقلي أو شرعي أو عادي، «أو جواز» عقلي أو شرعي أو عادي، «أو إحالة» عقلية أو شرعية أو عادية.
وبذلك يعلم أن ذلك كله قطعي «و يلحق» في إفادته القطع «الوقوع» لما جوز عقلا أو شرعا، أو عادة «في الجميع» أي في جميع الأقسام المذكورة -العقلي والشرعي والعادي- «بهذه» الأدلة القطعية «وعدم الوقوع» له، فإن الجائز لا يلزم وقوعه ولا عدم وقوعه ضرورة كونه جائزا.
وأما مناقشة دليل ما في علم الأصول «و» بحث «كونه حجة» في هذا العلم «أو لا» فإنه ليس من صميم مسائل هذا العلم، وإنما «ذلكا» -الألف للإطلاق- الذكر «يؤخذ» جوازه ومسوغه «من» البحث عن «وقوعه كذلكا» أي وقوعه دليلا أم لا.
ونص كلام الشاطبي: «فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة فراجع إلى وقوعه كذلك أو عدم وقوعه كذلك»(*)؛ وبذلك فإن إيراد ما هذا شأنه في مباحث أصول الفقه ليس الغرض منه إلا اختبار وسبر أحواله ليعلم كونه صالحا للاحتجاج به في هذا العلم أم لا فقط.
وما على الصحة والعكس اشتمل°°°° مرجعـه إلى الثلاثـة الأول
وكــونـه مــن جـمـلــة الأحـكــام°°°°° …………………………..
وأما ما يعرف به كون الشيء المبحوث فيه صحيحا أو غير صحيح فقد أورده المصنف بقوله: «وما على الصحة والعكس» وهو عدم الصحة «اشتمل» يعني اتصف، فإن «مرجعه» الذي يعرف به حاله «إلى الثلاثة» المذكورة «الأوَل» وهي الوجوب والجواز والاستحالة، فإن صح فإنه إما أن يكون واجبا أو جائزا، وإن لم يصح فإنه يرجع إلى الاستحالة، ويعرف كل ذلك بالشرع والعقل والعادة.
وأما كون الشيء متصفا بالأحكام الشرعية فحقه أن لا يذكر في كتب الأصول لأن ذلك من مسائل الفقه، وفي ذلك يقول: «و» ذكر «كونه» كون شيء ما «من جملة» ما تقرر فيه أحد «الأحكام» الشرعية، ككونه واجبا أو مندوبا أو حراما أو مكروها أو مباحا، محله كتب علم الفقه.
……………………………… ليس من الأصـول بالإلزام
من حيث كونها أصولا والذي يدخلها خلط العلـوم يحتذي
إذ «ليس» ذكره من هذه الجهة -جهة الأحكام- من مسائل علم «الأصول» بحيث يكون مما يتعلق به نظر الأصولي وبحثه « بالإلزام».
وذلك «من حيث كونها أصولا» فقهية، «والذي يدخلها» أي هذه الأحكام، ويدخل ذكرها على هذا الوجه وبهذه الصورة «خلط العلوم» بعضها ببعض، «يحتذي» يتبع، إذ خلط -هنا- مسائل الفقه بمسائل الأصول.
ومعلوم أن خلط -تداخل- العلوم إنما يصح ويحمد إذا كان لغرض البيان وتتميم الفائدة، فإن كان على خلاف ذلك فإنه مما يجب أن يتوقى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(*) الموافقات، ج.1، ص.26.
يتبع..