التنبيه إلى مسالك استدلال الفقيه الحذر من دعوى الاستعمال من غير تتبع فذا جهل بدلالة اللفظ.

يقول ابن تيمية في رده على البكري: “بالجملة فكلام هذا الرجل كثير منه نزاع لفظي، ومع كونه لفظيا فهو يعبر عن المعنى بلفظ لم يعبر به غيره، وينكر على غيره أن يعبر عن المعنى بالعبارة المستعملة فيه ففيه جهل وظلم، جهل بدلالة اللفظ في استعماله، واستعمال اللفظ فيما لم يستعمل فيه قط، وينكر على من استعمله في معناه، ويريد أن يلزمهم بالقبيح الذي ارتكبه ويحمل كلامهم على المعنى الباطل لظنه أن اللفظ يحتمل”.
ومن باب الفائدة أقول: التزام الألفاظ الشرعية الفقهية مطلقا سبيل سلفي يجب إحياؤه. ويعجبني هنا ما ذكره العلامة ابن القيم في التحفة:..ونظير هذا اختلافهم في تسمية العشاء بالعتمة، وفيه روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق في الموضعين كراهة هجر الاسم المشروع من العشاء والنسيكة والاستبدال به اسم العقيقة والعتمة، فأما إذا كان المستعمل هو الاسم الشرعي ولم يهجر وأطلق الاسم الآخر أحيانا فلا بأس بذلك وعلى هذا تتفق الأحاديث وبالله التوفيق.اهـ
والكلام عن الاصطلاح الفقهي الحادث له وقفة، وفصل الخطاب في حكمه ما قال ابن القيم في الإعلام(1/90): وَلَا حَجْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ حَمْلَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْغَلَطُ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ وَحَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهَا وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ أَغْلَاطٌ شَدِيدَةٌ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ.

ومن أمثلة الباب: استعمال الماء المطلق عوضا عن الماء الطهور بل ذهب بعض الناس إلى الفرق فجعل المطلق أخص من الطهور والطهور أعم منه، وذلك باعتبار التغير وفي هذا هجر للفظ الشرعي وتخصيص من غير مخصص، والأمر يحتاج إلى تفصيل.

ومما يجب التنبيه عليه إجمالا بعض القواعد المندرجة تحت هذا الأمر.
حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق.
مثل الطلاق ثلاثا بلفظ واحد.
حمل اللفظ العام على الصور القليلة.
مثل الحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث.
قال المجد ابن تيمية في المنتقى: حديث ابن عمر في القلتين يدل على نجاستها، وإلا يكون التحديد بالقلتين في جواب السؤال عن ورودها على الماء عبثا.اهـ
فحمله البعض على البول وهذا نادر غير مراد، فالغالب ورودها للشرب.
فالحذر من التخليط والاضطراب في هذا الباب، فالزم جادة السبيل، ولا يكن شأنك ما قال فيه ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن(60):
..لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره لغير ما علة، ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا طلب الحيلة الضعيفة.اهـ
الأمر الثاني: إدخال ما لا يتناوله اللفظ.
والمقصود به تحميل اللفظ ما لا يحتمل.
فالواجب”الوقوف عند حد الاسم الذي علق عليه الحل والحرمة فإنه هو المنزل على رسوله وحده بما وضع له لغة أو شرعا بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه”.
ومما له تعلق بحد الاسم من جهة المعنى خاصة، ترتيب الحقائق تقديما وتأخيرا أعني الحقيقة الشرعية، والحقيقة العرفية، والحقيقة اللغوية. ومعرفة ما يمنع من ذلك، والحذر من الاصطلاحات الحادثة.
قال شيخ الإسلام :”الأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة منها ما يعرف حده ومسماه بالشرع فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والإسلام والكفر والنفاق.
ومنه ما يعرف حده باللغة كالشمس والقمر والسماء والأرض والبر والبحر.
ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم فيتنوع بحسب عادتهم كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار.
ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس.
فما كان من النوع الأول فقد بينه الله ورسوله وما كان من النوع الثاني والثالث فالصحابة والتابعون المخاطبون بالكتاب والسنة قد عرفوا المراد به لمعرفتهم بمسماه المحدود في اللغة أو المطلق في عرف الناس وعادتهم من غير حد شرعي ولا لغوي، وبهذا يحصل التفقه في الكتاب والسنة”.
فسبيل الفقيه النظر في الألفاظ المستعملة وتتبعها أي النظر فيما بينه الله تعالى ورسوله. ومما يعين على ذلك كتب اللغة التي ميزت بين الحقائق وذكرت العلة والمأخذ والقيد.
ثم النظر في استعمال الصحابة لها، فهما سبيلان لا ينفصلان لمعرفة المقصد وإلا حمل اللفظ على غير المراد.
فالإخلال بهذه المنزعة والملحظ وقوع في التغيير والتبديل لمراد الشرع، وسبب الخلاف والتنازع.
فحق هذه المسألة أن تفرد بقاعدة منفصلة لأنها لب المسلك وأساسه، والاستدلال الحق لا يقوم إلا بها، لكن ما أجمل يفي بالغرض، والواجب التحرير.
والمقصود عدم جواز حمل اللفظ على غير ما يدل عليه.”بل ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبين معناه من القرآن والدلالات، فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والسنة والاستدلال بهما مطلقا ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب وطرد الدليل ونقضه”
وسيأتي في قاعدة التصور زيادة إفادة.
ومن أمثلة القاعدة: تأويل من يتأول قوله: “أيما امرأة نكحت عن غير إذن وليها” على المكاتبة.
وكإدخال العينة في مسمى التجارة بحجة التراضي ونحو ذلك محتجا بقوله تعالى:”إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *