شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

وذاك عـادة محـال أصلـه *** فـكـل مـا أدى إلـيـه مثـلــه
هذا ولو جاز سوى اليقين *** فيها لجاز في أصول الدين
«و» إن «ذاك» وهو تطرق الظن إلى هذا الأصل «عادة محال أصله» وهو احتمال هذا التطرق «فكل ما» أمر «أدى إليه» إلى هذا الاحتمال فإنه «مثله» في كونه أمرا محالا، ومن ذلك القول بأن أصول الفقه ظنية الثبوت، فإنه يؤدي إلى أن الأصل الكلي المذكور -أيضا- ظني، لأن الفرع له حكم الأصل، والأصل له حكم الفرع، فعلم أن هذه الأصول قطعية لكون الشريعة أمرا ثابتا على قطع، ولا يتطرق إليها تغيير أو تبديل، لأنها كلمة الله و{لا تبديل لكلمات الله}.
«هذا» أي أقول هذا وأعضده بوجه آخر، «و» هو أنه «لو جاز» حكم آخر «سوى اليقين» والقطع «فيها» يعني في كونها أصولا قطعية «لجاز» مثل ذلك وهو عدم اليقين «في أصول الدين» المعتقدات الدينية -الإسلامية- التي لا تقوم صفة الإسلام بالشخص إلا باعتقادها، وهي قطعية الثبوت فلا يتطرق تبديل ولا تغيير إليها على الإطلاق، ولهذا قال:
ومـــا كـــذاك تــلـك بـاتـفــاق ***فليجر حكم القطع بالإطلاق
فهي لدى الشرع أصول مثلها ***فشـأنـهــا متـحـد وأصـلـهــا
والقـصـد كليـاتـه المشـهــورة ……………………………
«وما» يعني وليس «كذاك» الذي ذكر من احتمال جريان غير اليقين في «تلك» الأصول المذكورة وفي أصول الدين بأمر جائز «باتفاق» بين جميع المسلمين، وإذا تقرر هذا «فليجر» أي فليوقع «حكم القطع» بالثبوت وعدم التغيير والتبديل «بالإطلاق» في أصول الدين وفي أصول الفقه على السواء.
لأنك إن تأملت أصول الفقه «فـ» إنك تدرك أنها «هي لدى الشرع أصول مثلها» مثل أصول الدين «فشأنها» أي أصول الفقه وأصول الدين «متحد» لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين، لأنها كلها كليات معتبرة في كل ملة، والكل داخل في حفظ الدين من الضروريات، فيجمع بينها بذلك، هذا مع التفاوت في المراتب «وأصلها» الذي أخذت منه، وهو الكلي الذي هو الشريعة -أيضا- واحد.
«والقصد» بقولنا الكليات «كلياته» أي كليات الدين «المشهورة» بين أهل الفقه والنظر في الأدلة الشرعية.
……………………………… تحسينا أو حاجة أو ضرورة
وهي التي قد ضمن الحفظ لها ***وأخـبــر الله بـأن أكـمــلـهـــا
فـالـحـفـظ والإكـمـال للـكـلــي ***دلـيـلــه تـخـلــف الـجــزئــي
»حاجة أو» قد يكون «ضرورة» كما سيأتي ذلك مفصلا.
«و» هذه الكليات «هي التي قد ضمن الحفظ» الإلهي «لها» في قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، إنما المراد به حفظ أصول الدين الكلية المنصوصة، «وأخبر الله» تعالى «بأن» أي بأنه «أكملها» في قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}.
«فالحفظ والإكمال» المذكوران إنما هما «للكلي» المذكور -الكليات الثلاثة المذكورة: الضروريات والحاجيات والتحسينات- و«دليله» أي ودليل هذا الذي ذكرناه من اختصاص الحفظ بما ذكر، وهو «تخلف» حفظ «الجزئي»، إذ لو كان الجزئي داخلا فيما ضمن حفظه لم يتخلف عن الحفظ جزئي من جزئيات الشريعة على الاطلاق، وليس كذلك لأنا نقطع بجواز ذلك التخلف، ويؤيده الوقوع لتعارض الظنون وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية ووقوع الخطأ فيها قطعا، فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد وفي معاني الآيات فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كليا، وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيا في ثبوته بمقتضى هذا الحفظ الإلهي الذي تزول الراسيات ولا يزول.
وقد نفى القاضي عن الأصول ***مـا ليس قطعيـا علـى التفصيل
مثل تفاصيل الحـديـث والعـلل ***وغيرها مما على الظن اشتمل
»وقد نفى القاضي» أبو بكر الباقلاني -رحمه الله- «عن الأصول» كل «ما ليس» أصلا «قطعيا» ومراده ما كان «على التفصيل» وهو ما كان جزئيات أصولية.
وذلك «مثل تفاصيل» أحكام «الحديث» النبوي فيما يتصل بظنية ثبوته، وتفاصيل أقسامه التي تذكر في أصول الفقه، والتي يعتمد عليها في إثباته على الظن، «و» مثل تفاصيل الحديث هذه تفاصيل «العلل» المسطورة في باب القياس، ومن ذلك ما يقدح به في العلة من قوادح، فكل ذلك مبناه على الظن، ونص كلام القاضي هذا الذي ذكره المصنف موجزا «فإن قيل: فيدخل في هذا الفن ما لا يلتمس فيه القطع والعلم؟» قيل: ما ارتضاه المحققون أن ما يبتغي فيه العلم لا يعد من الأصول؛ فإن قيل: فأخبار الآحاد والمقاييس السمعية لا تفضي إلى العلم وهي من أدلة أحكام الشرائع؟ قيل: إنما يتعلق بالأصول تثبيتها أدلة على وجوب الأعمال، وذلك مما يدرك بالأدلة القاطعة، فأما العمل المتلقى منها فمتصل بالفقه دون أصول الفقه»(1)؛ «وغيرها مما» من الجزئيات «على الظن اشتمل» في بنائه.
واعتذر الإمام عن إدخاله ***فيـهـا لأن القـطـع مـن مـآلــه
فهو وإن ألفي غير قطعي ***يرجع في المعنى لحكم القطع
«واعتذر الإمام» الجويني -إمام الحرمين- في صدر كتابه «البرهان» «عن إدخاله» أي إدخال هذا الذي ذكر من اﻷدلة الظنية «فيها» أي في أصول الفقه، وعدها منها «لأن القطع» بكونها أدلة فقهية «من مآله» يعني من مآل ذكرها وبحثها هناك.
«فهو» أي ما ذكر من الظنيات «وإن ألفي» وُجِد «غير قطعي» الثبوت فإنه «يرجع في المعنى» باعتبار أن وجوب العمل به قطعي «لحكم القطع» فيكون بذلك الاعتبار قطعيا.
ظاهر كلام الناظم -رحمه الله- أن ذكر المظنونات المذكورة في كتب أصول الفقه إنما حصل من جهة أن لها حكم القطعيات باعتبار قطعية وجوب العمل بأصلها -القياس- خبر الواحد في الجملة من غير ملاحظة التفاصيل، لأن الأصل إذا قطع العمل به فكل التفاصيل المبنية عليه داخلة فيه بالمعنى.
ظاهر كلام إمام الحرمين في «البرهان» أن الأصولي حظه أن يذكر أن خبر الواحد والقياس -مثلا- مقطوع به في بناء الأحكام الفقهية، لكن لما كان بيان حقيقة هذا الذي قطع بأنه تبنى عليه الأحكام الفقهية ذكرت هذه التفاصيل ليتبين المدلول -المعنى المقصود- ويرتبط الدليل -الذي دل على ذلك المعنى- به؛ ونص كلامه «فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول وليست قواطع؟ قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل به، ولكن لابد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط به الدليل»(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- إمام الحرمين، التلخيص، ص. 7.
(2)- ج. 1، ص. 8.
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *