“إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة” مقارنة بين التشريع السماوي والقانون الوضعي (2) الحلقة السادسة والأربعون ناصر عبد الغفور

تتمة ذكر الفروق بين التشريع السماوي والقانون الوضعي..

5- التشريع السماوي يحاسب على الأعمال الظاهرة والباطنة بخلاف القانون الوضعي فإنه لا يحاسب إلا على بعض الأعمال الظاهرة أي الخارجية. والسبب في ذلك واضح وهو أن التشريع السماوي تشريع رباني، أنزله من يعلم السر وأخفى ويعلم ما تخفي الصدور، كما قال جل وعلا: “وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى” طه7، وكما قال سبحانه: “يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ” الطارق9، فالله تعالى يعلم ظواهرنا وبواطننا ولا فرق عنده سبحانه بين ما نسر وما نعلن، لذلك فتشريعه يحاسب على أعمال الجوارح من طاعات وقربات أو معاصي ومخالفات كما يحاسب على أعمال القلوب.
أما القانون الوضعي فإنه لا يحاسب إلا على بعض الأعمال الخارجية من أعمال الجوارح لأنه من وضع الإنسان، وأنى لهذا الإنسان أن يطلع على صدر غيره ويعلم سريرته حتى يحاسبه عليها، فليس ذلك إلا لله.

6- للتشريع السماوي في قلوب المؤمنين به تعظيم وإجلال، هيبة واحترام سواء كانوا حكاما أو محكومين، أغنياء أو فقراء، شرفاء أو ضعفاء.. وذلك لأن الذي أنزله هو ربهم وخالقهم وكل ما شرعه فهو دين يدان به، وهذا الدين لا قصر فيه ولا إجبار بل يستجيب له المسلم بكل طواعية واختيار.
كما قال جل وعلا: “إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” النور51، فتجد المسلم يمتثل أوامر الشرع ويجتنب نواهيه بإرادة تامة ويسلم لأحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، لأنه يعلم أن ذلك من لوازم الإيمان مصداقا لقول البارئ سبحانه: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ..” الأحزاب36.
أما القانون الوضعي فليس له أدنى احترام أو هيبة في قلوب المسلمين لأنه يخالف هويتهم وانتماءهم الحقيقي للإسلام، فإن استجابوا له فليس عن طواعية واختيار بل غالبا ما يكونون مجبرين على الامتثال، ومن ثم فإن النفوس تتجرأ على مخالفته والتملص منه متى استطاعت.

7- الجزاء في التشريع السماوي جزاء دنيوي وأخروي، أما القانون الوضعي فالجزاء فيه دنيوي محض تنفذه السلطات، لذلك غالبا ما نجد الأحكام سواء في القرآن أو السنة مرتبطة بالثواب والجزاء العظيم أو بالوعيد والعقاب الوخيم في الدارين، كما في قوله تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” النحل97، وكما في قوله جل وعلا: “إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً” النساء10.

8- من الفروق كذلك بين التشريع السماوي والقانون الوضعي: أن التشريع السماوي من أهم ركائزه رفع الحرج؛ فكل ما شرعه الله تعالى ليس فيه أدنى حرج بل الناظر بعين الإنصاف يجد التشريعات الربانية مبنية على اليسر والتخفيف بحيث يمكن لأي أحد أداءها بكل سهولة وخفة، فرفع الحرج مقصد من مقاصد الشريعة وأصل من أصولها؛ فإن الشرع لم يكلف الناس بالتكاليف للتضييق عليهم وإلحاق العنت بهم، ومن القواعد الفقهية التي تندرج تحت هذا الأصل، قولهم: “المشقة تجلب التيسير”، وقولهم: “لا واجب مع العجز..”.
والأدلة على رفع الحرج في شريعتنا الإسلامية كثيرة، منها قوله تعالى: “يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” البقرة85، وقوله تعالى: “وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” الحج78، وقوله تعالى: “لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا” البقرة286..
أما القوانين الوضعية فكثير منها يتسم بسمة الحرج والضيق؛ فغالبا ما يكون فيها تكليف للناس فوق طاقتهم وقدرتهم لكنهم مضطرون للامتثال بحكم إجبارية القانون.

9- التشريع السماوي مصلح لكل زمان ومكان، وذلك لأن الله تعالى جعل شريعة الإسلام آخر الشرائع لا شريعة بعدها، فكان صلاحها لكل زمان ومكان أمر ملازم لها، وهذا ما جعل باب الاجتهاد -لاستنباط الأحكام المتعلقة بالنوازل والمستجدات- مفتوحا إلى قيام الساعة.
فمهما يكن من أمر إلا وحكمه موجود في هذا التشريع، إما في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو في الإجماع أو يكون محط اجتهاد وقياس، وهذه هي أصول الأدلة المتفق عليها عموما بين أهل العلم، يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته: “فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبدهم به لما مضى من حكمه جل ثناؤه من وجوه:
– فمنها ما أبان لخلقه نصا..
– ومنه ما أحكم فرضه بكتابه وبين كيف هو على لسان نبيه..
– ومنه ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نص حكم..
– ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم…” .
أما القوانين الوضعية فليست كذلك وهذا ما يجعلها دائمة التغيير والتبديل، يسن قانون فتمر فترة فينسخ بقانون آخر وهكذا لا استقرار ولا ثبات لها..
تلك بعض الفروق بين التشريع الرباني والقانون الوضعي الذي اكتسح كل ميادين الحياة وجوانبها، حتى أضحى الواحد منا لا يكاد يلتمس سمة الإسلام في قانون جنائي أو مدني أو جانب اقتصادي أو سياسي.. فالأمر أصبح كنوع من الإقصاء لشريعة الإسلام وحصرها في المساجد، وهذا ما سعى ويسعى إلى ترسيخه أهل الاستغراب عجل الله بتطهير البلاد والعباد من شرهم وكيدهم..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *