الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِي رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ » متفق عليه.
تأملات في الدُّرة:
في هذه الدرة النبوية يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل لأحدنا أن يخاصم أخاه ويترك كلامه فوق ثلاثة أيام، بحيث إذا التقيا في طريق أعرض كل واحد منهما عن صاحبه. ويخبرنا عليه الصلاة والسلام أن أفضل هذين الخصمين منـزلة عند الله الذي يبدأ أخاه بالسلام.
وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة من الفوائد:
– أن الأصل هو تحريم التهاجر والتدابر بين المسلمين، لأن ذلك ينافي الأخوة الإيمانية، ولهذا جاء في حديث أنس رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ» (متفق عليه)، ومعنى التدابر: أن يولي كل واحد صاحبه دبره وظهره.
– الرخصة في الهجر ثلاثة أيام بلياليهن، إذا كان الهجر لحق النفس، وذلك بسبب ما جُبلت عليه النفس من الأثرة، وحُبِّ الذات، قال العلماء: “…وإنما عُفي عنها في الثلاث؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب، وسوء الخلق، ونحو ذلك، فعفي عن الهجرة في الثلاثة؛ ليذهب ذلك العارض” (شرح مسلم لنووي 16/117).
– تحريم الهجر فوق ثلاث، وقد ورد في ذلك حديث وعيد شديد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» (أخرجه أبو داود، وصححه الألباني). فإذا تجاوز الهاجر ثلاثة أيام إلى سنة فإن ذلك مثل سفك دم المهجور، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ» (أخرجه أبو داود، وصححه الألباني). هذا إذا كان الهجر لحق النفس، وأما الهجر لحق الله تعالى، بسبب بدعة أو معصية ارتكبها المهجور، فإنه غير مؤقت بوقت، بل إنه يشرع ما دام سببه قائما، إذا كان يرجى من ذلك الهجر تحقق مصلحة شرعية، للهاجر إذا خاف على دينه (هجر وقائي)، أو المهجور إذا رُجِي إصلاحه (هجر تأديبي)، أو لهما معا.
ودليل كون هذا النوع من الهجر غير مؤقت: أمره صلى الله عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم المسلمون خمسين ليلة حتى نزلت توبتهم. (القصة في الصحيحين، وبوب عليها البخاري بقوله: باب ما يجوز من الهجران لمن عصى).
وينبغي أن لا يتجاوز في الهجر التأديبي القدر الذي تتحقق به المصلحة، كما قال ابن القيم في قصة الثلاثة الذي خُلِّفُوا: “وفيه دليل أيضا على هِجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له، بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه؛ إذ المراد تأديبه لا إتلافه” (الزاد 3/506).
– أفضل المتهاجرَيْن من يبادرُ أخاه بالسلام، ويكون له السبق في قطع الهجر، وإعادة الوصل؛ لأن ذلك يدل على قهره لنفسه الأمارة بالسوء، وعلى تغلبه على هواه، وذلك علامة على شدة تقواه لربه، وعلى قوة إيمانه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» (متفق عليه).
– أن الهجر ينقطع بالسلام، وقد اشترط بعض العلماء لانقطاع الهجر أن يعودا كما كانا قبل الهجر، لقوله صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلاَّ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا» (مسلم)، أي: حتى يرجعا إلى ما كانا عليه قبل الهجر من المودة.
– أن الحفاظ على الأخوة الإيمانية مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية، ولهذا نجد الشريعة تأمر بما يقوي هذه الأخوة ويزيدها، وتنهى عما يضر بهذه الأخوة، ويُخِلُّ بها.
فمن الأوامر: إفشاء السلام، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، والإحسان، والهدية، ومحاسن الأخلاق…
ومن النواهي: تناجي الرجلين إذا كانوا ثلاثة، والبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته، وإضاعة الحقوق، والظلم، ومساوئ الأخلاق…