شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها “نيل المنى في نظم الموافقات” للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

ودخلـوا فـي دينـه أفـواجـا *** واتـخـذوا شـرعـتـه منهـاجــا
ولم يحد عن ذاك إلا حاسد ***أو جـــــاحــد لـحـقــه معـانـد
فانتسخت بشرعه الشرائـع ***وانقطعت عن غيره المطامع
«ودخلوا في دينه» الذي أرسل هبة من رب العالمين، «أفواجا» أي جماعات، «واتخذوا» أي صيروا وجعلوا «شرعته» بكسر الشين وسكون الراء -أي شريعته- ما شرعه الله -تعالى- لعباده من الدين، «منهاجا» -بكسر الميم- طريقا واضحا يمشون عليه.
«ولم يحد» أي يمل ويعدل «عن ذاك» البدار واتخاذ الشريعة منهاجا، «إلا حاسد» أعماه حسده وأضله عن سواء السبيل، كما هو حال اليهود «أو جاحد» منكر «لحقه» صلى الله عليه وسلم في الإيمان به وفي وجوب إتباعه وطاعته، «معاند» يعرف الحق وينكره.
«فانتسخت» أي أزيلت «بشرعه» الذي أرسل به، جميع «الشرائع» السابقة؛ وأضاف الشرع إليه باعتبار أنه الذي هو عليه في عقيدته وعبادته؛ «و» بذلك الانتساخ لتلك الشرائع «انقطعت» فانفصمت عن «غيره» أي عن غير شرعه، ويحتمل أن يكون عن غير الرسول -صلى الله عليه وسلم-، «المطامع»، يعني مطامع الخلق في التعبد والتقرب إلى الباري -سبحانه وتعالى- لأنه لا غناء فيما سواه من الشرائع بعد أن نسخت، أو لا غناء في اتباع غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الرسل من غير اتباعه، بعد أن كان اتباعه شرطا في صحة الإيمان وقبول الأعمال.
واختصـه الله بمعـجـزات ***منها الكتاب الواضح الآيات
أنــزله مفصـل الأحكـــام ***مـــبيـن الحـلال والحــــرام
صـادعـة آيـاتـه بصدقــه ***وفضـلـه علـى جميـع خلقـه
»واختصه» أي افرده «الله» تعالى «بمعجزات» باهرة كثيرة، «منها» القرآن الكريم، وهو «الكتاب الواضح» البين «الآيات» جمع آية، سميت بذلك لأنها جماعة من حروف القرآن، أو سميت بذلك لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام.
«أنزله» سبحانه وتعالى «مفصل» -بفتح الصاد وكسرها- فهو بالفتح بمعنى موضح مبين «الأحكام»، فيكون فيه إضافة الصفة للموصوف -يعني أن أحكامه مبينة لا خفاء فيها ولا إجمال ولا إبهام-، وبالكسر بمعنى أنه موضح ومبين للأحكام الشرعية على صفاء تام لا يعتريه غبش ولا يخالطه كدر، «مبين» -بالفتح والكسر- «الحلال» فهو بالفتح بمعنى مبين ما حكم عليه فيه بأنه الحلال المباح، «و» كذلك ما حكم عليه فيه بأنه «الحرام» المحظور، وبالكسر بمعنى أنه مبين ما هو الحلال وما هو الحرام، موضح له على صفاء ونقاء.
«صادعة» ناطقة بجهر «آياته» أي الكتاب -القرآن الكريم- «بصدقه» -عليه الصلاة والسلام-، «و» شاهدة بـ«فضله» العظيم «على جميع خلقه» تعالى، ومن ذلك قوله سبحانه: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}، وقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى، وهي كثيرة جدا.
فـأكـمـل الـديـن بـه للأمــــة ****متـمـمـا عـلـيـهـم للـنـعـمــة
وإن في العجـز عن الإتيـان ***بـمثـلـه لأعـظــم البـرهــان
وإذ أقر الشرع أصلا أصلا ***خير فاختار الرفيق الأعلى
»فأكمل» سبحانه «الدين به» يعني بإرساله وبعثه «لـ» هذه «الأمة» المسلمة، «متمما» ومكملا «عليهم للنعمة»، قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.
هذا «وإن في العجز» القائم بالثقلين «عن الإتيان» والمجيء «بمثله» أي بمثل هذا القرآن «لأعظم» ما يصح أن يطلق عليه لفظ القرآن «البرهان» وأجَلِّه.
«وإذ» أي وحين « أقر» صلى الله عليه وسلم أي ثبت قواعد وأركان «الشرع»، ورسخ أصوله «أصلا أصلا»، وبين أحكامه حكما حكما «خير» -بضم الخاء مبنيا للمفعول- أي خيره الله سبحانه وتعالى بين الحياة والموت، «فاختار» عليه الصلاة والسلام «الرفيق الأعلى» وهو الجنة لأنها المحل الذي تحصل له فيه المرافقة مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، أو مع جبريل وميكائيل وإسرافيل.
قال الحافظ ابن حجر: «وزعم بعض المغاربة أنه يحتمل أن يراد بالرفيق الأعلى: الله عز وجل، لأنه من أسمائه كما أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن مغفل رفعه: «إن الله رفيق يحب الرفق» كذا اقتصر عليه، والحديث عند مسلم عن عائشة فعزوه إليه أولى.
قال والرفيق يحتمل أن يكون صفة ذات كالحكيم، أو صفة فعل؛ قال: ويحتمل أن يراد به حضرة القدس، ويحتمل أن يراد به الجماعة المذكورون في آية النساء؛ ومعنى كونهم رفيقا تعاونهم على طاعة الله وارتفاق بعضهم ببعض، وهذا الثالث هو المعتمد، وعليه اقتصر أكثر الشراح؛ وقد غلط الأزهري القول الأول، ولا وجه لتغليطه من الجهة التي غلطه بها وهو قوله: مع الرفيق الأعلى، لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ»(*).
وأصل ما ذكره الناظم من الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو صحيح أنه لم يُقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يُخيَّر؛ فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى؛ فقلت إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي يحدثنا وهو صحيح، -قالت- فكان آخر كلمة تكلم بها: اللهم الرفيق الأعلى».
وبــقــي الـهــدى لـبـاقـي أمـتـــه ***فـي مقتضـى كتـابــه وسـنـتـــه
عـليــه مـن بـاعـثـه بـالـحكمــــة ***أزكى الصلاة وأعـم الرحـمـــة
وبـعـد فـالـعـلـم حـيــاة ثـانـيـــــة ***لـهــا دوام والـجـســوم فـانـيـــة
ومـذ غــدا ظـل الشـبـاب زائــلا ***ولـم أنـل مـن الـزمــان طـائــلا
جـعـلـت فـي كتـب العلـوم أنسي ***وعن سوى العلم صرفت نفسي
فالعلم أولى ما انقضى به الزمن ***وكتبـه هي الجليـس المـؤتـمـــن
«و»بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- «بقي الهدى» والرشد «لباقي» وسائر «أمته» متضمنا مودعا «في مقتضى» آيات «كتابه» تعالى «و»مقتضى «سنته» عليه الصلاة والسلام.
«عليه من باعثه» ومرسله سبحانه وتعالى «بالحكمة» والحق المبين «أزكى» أي أطيب «الصلاة وأعم» أي أكمل وأشمل «الرحمة» والسلام.
«وبعد» ظرف مقطوع عن الإضافة لفظا لا معنى، أي وبعد هذا الذي ذكر من الثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على نبيه الكريم «فـ» إن «العلم» الذي به عبادة رب العالمين ومعرفته «حياة ثانية» مستمرة، «لها دوام» وبقاء وأما «الجسوم» والذوات فإنها على كل حال «فانية» زائلة إذ تصير رمما بالية وعظاما نخرة.
«ومذ غدا» أي صار «ظل» نعيم وقوة «الشباب» شيئا فانيا «زائلا» عني أي ذاهبا، وخلف محله ظل الكهولة، «ولم أنل» أي أدرك «من» إفنائي هذا «الزمان» الذي مضى من عمري شيئا «طائلا» رفيع القدر نفيسا.
«جعلت» وهو جواب قوله لما «في كتب العلوم» -بسكون التاء- جمع كتاب، «أنسي» -بضم الهمزة وسكون النون- أي طمأنينتي «وعن سوى» أي غير «العلم» يعني الاشتغال به «صرفت نفسي» أي كففتها ورددتها.
«فالعلم أولى» وأفضل «ما انقضى» وفني «به» أي فيه «الزمن»، والوقت «وكتبه» -بسكون التاء- «هي الجليس» أي المُجالس وهو الذي يجالسك في المجلس، وهو هنا بقيد دراسته وقراءته، «المؤتمن» أي الأمين الحافظ.
قال المتنبئ:
أعز مكان في الدنى سرج سابح ***وخير جليس في الزمان كتاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)- [فتح الباري: 8/137]
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *